د. حسين الهنداوي *
تثبت نصوص سومرية وبابلية اكتشفها علماء الآثار مؤخرا ان العراقيين القدماء سبقوا سواهم من البشر في ابتكار وبلورة مفاهيم دقيقة في الفكر السياسي اهمها مفهوم ((أما-ار-جي) او (ama-ar-gi)، ويكتب ايضا (??) ويعني الحرية بالمعنى السياسي الحديث، وكذلك استعادة الحرية او الانعتاق بالنسبة لأسرى العبودية والحروب كما تعني رفع العقوبات الجسدية والمادية والمعنوية واستعادة الحقوق والممتلكات بالنسبة لسجناء الرأي وغيرهم. ويبدو ان أول استخدام معروف لهذه الكلمة كمصطلح قانوني كان في إصلاحات الملك أوروكاجينا من سلالة ملوك أور الثالثة.
ويشير علماء الآثار ايضا الى ان العراقيين القدماء كانوا يستخدمون بشكل خاص لفظتين مختلفتين للدلالة على مفهومي العدالة والحق وهما (كيتو) و(ميشارو)، الاولى تعني النزاهة في الحكم والالتزام بالقانون او الثبات عليه، فيما تعني الثانية التمسك بالاستقامة والصواب (النظام الحق) وكل شيء حسب طبيعته وفي مجاله. وتتضمن فكرتهم في هذا الشأن الفصل بوضوح على مبدأ الحق الخاص لكل مواطن بموازاة او مقابل الحق العام لكل المجتمع العادل في تأكيد على ان الحياة عامة وليست فردية في المجتمع، اي في اطار القانون الوضعي.
وفي هذا السياق من المؤكد، ان الفكر السياسي في العراق القديم كان قد جعل من واجب السلطة السياسية (الدولة) توفير العدالة الاجتماعية النفسية والمادية لكل أفراد المجتمع دون استثناء في اطار القيم السائدة في لحظة تاريخية او اخرى.
وللاهمية التاريخية والمعاصرة للمصطلح السومري-البابلي عن مفهوم الحرية ومضامينه الانسانية العميقة والشاملة، ذهب عدد من المؤسسات والاكاديميات العالمية المعاصرة المعنية بالدفاع عن الحرية ورفض الاستعباد في العالم الى اعتماد صورة كتابته المسمارية الاصلية السومرية نفسها (??) شعارا لها لرمزيته الكونية كاول واقدم ظهور مكتوب لكلمة» الحرية في التاريخ البشري من بينها المعهد السياسي للحريات في البيرو، وكلية الاقتصاد الجديد في جامعة جورجيا الامريكية،
ومؤسسة الحرية في ولاية انديانا الامريكية، كما كانت كلية الاقتصاد في جامعة لندن قد اتخذته اسما وشعارا لمجلتها في وقت سابق وغيرها العديد من الهيئات والمؤسسات.
ومن الكتابات السياسية البابلية المكتشفة مؤخراً، لوح على قدر كبير من الاهمية والقدم في موضوع نظم الحكم، عثر عليه في مكتبة الملك آشوربانيبال الشهير في نينوى (القرن السابع ق.م). ويرجع تأريخ تدوينه الى العهد الآشوري الاخير، نص على نصائح صارمة موجهة الى الحاكم بلزوم تطبيق العدل في ادارة البلاد، وضعت لحماية حقوق المواطنين في بعض المدن البابلية وبوجه خاص سيبار ونفر وبابل ازاء السياسات الاعتباطية ضدهم ومنها فرض عمل السخرة الاجباري عليهم وسلب اموالهم.
اما الملك المقصود بذلك التحذير فيرجح المؤرخ الراحل طه باقر في «مقدمة في تاريخ الادب في العراق القديم» (ص 160). ان يكون ملك بابل مردوخ – بلادان (مردوخ – ابلا – ادنا) المعاصر للملك سرجون الاشوري الثاني (721-705)، فيما ارتأى باحثون آخرون ان يكون الملك الاشوري سنحاريب (704-681 ق.م) هو المقصود بالنصح. ومهما يكن الامر فان الادلة الداخلية، من شكل الخط والاسلوب اللغوي، تشير الى ان زمن النص يرقى الى ما بين 1000 و700 ق.م. وابرز ما جاء فيه من مفاهيم ما يلي: «اذا لم يعبأ الملك باقامة العدل، ستعم الفوضى شعبه وتخرب بلاده، وواذا لم يعمل على نشر العدل في مملكته فان الاله العظيم سيد المصائر والاقدار «ايا»، سيبدل مصيره، ولن يكف عن ملاحقته. واذا لم يستمع الى نصح امراء البلاد فستكون حياته قصيرة، واذا لم يأخذ بنصح مستشاريه فستثور عليه بلاده، واذا اطاع الاشرار سيغير مصائر بلاده».
لم يقتصر العدل على الأفراد فقط بل أصبح ينظر إلى العلاقات الدولية من النوع المعروف حالياً بالقانون الدولي على أنها أسلوب للتعامل أمرت به الآلهة. وهو فهم للعدالة يمثل الجزء الأعظم في الخطاب السياسي الذي اتسم به العصر البابلي القديم (٢٠٠٤- ١٥٩٥ ق.م) وخصوصاً فترة الملك حمورابي (١٧٩٢- ١٧٥٠ ق.م) لاحتواء الخطاب شمولية في فهم العدالة وتطبيقها على الكون. والتي تمثلت بالعلاقات مع الدول الاخرى.
بيد ان المعضلة الكبرى اليوم، هي ان العراقيين نسوا كما يبدو، كي لا نقول تخلوا، نفس ذلك المبدأ الذي وضعوه قبل غيرهم بلزوم إعمام العدل على المستوى الدولي فضلاً عن الاهتمام به داخلياً اي لزوم اعلاء حق كل مواطن بالحرية والمساواة والعدالة امام قانون يحمي الجميع في مجتمع متضامن وسيد نفسه وكريم مع كل ما يقتضيه تحقيق هذا الهدف من لزوم ردع التدخلات الخارجية ودحر النزعات المشرذمة سواء الطائفية والقومية والقبائلية والحزبية منها او الفساد والجهل المتفشي اكثر فاكثر كالسرطان في شرايين واوردة وخلايا الطفيليات المتسلطة في كل مكان من العراق ومن دون استثناء حتى الآن.
- من كتاب «الفلسفة البابلية» الموشك على الصدور عن (دار المدى)