عبدالكريم كاظم
(أنت في وحدتك بلد مزدحم) رافائيل البرتي
نكتب عن النص الشعري الذي يثير الحيرة في نفس القارئ، أو الذي يتماثل مع طبيعة ونظام القراءة النقدية المجردة . من هنا نتساءل: هل يمكن لكل من قرأ حسب الشيخ جعفر أن يصدق أن حسب هذا نفسه، كان ومازال، في أغلب نصوصه الشعرية، يتماهى مع الحروف والجمل والمعاني حتى تدخل في نصه بأسلوب مغاير: (يا صائداً وطواط حرف) وأن الكلمات الشعرية لم تكن تدخل في نصه إلاّ بعد التحايل عليها بتمتمة جمالية يستحيل تلمسها إلاّ بعناء القراءة؟ وإذا كانت تجربته الشعرية تشكّل مجاز الإبداع الكتابي الذي خلّفه حسب، فإن نصوصه الأولى هي التي تعطي لتجربته عنوانها المغاير، وهي في الوقت نفسه قادرة على أن تكون مجازاً آخر، يضيء التجربة كلها وما وراءها أيضاً، ومع ذلك بقي الشاعر عاكفاً، وبمنظور جدلي ـ جمالي مدهش، على تجربته أو عزلته ويصوغها في نسقٍ من العلاقات اللغوية والفنية، بل ليصوغها، أحياناً، في أنساق متعددة متصلة بالرموز والذات والحياة .
حركية النص الشعري والتخطيط الواعي للفكرة الشعرية والإصرار على التجاوز هي من العلامات الفنية التي طبعت تجربة أو مسيرة حسب الشعرية وكما صورها بما يشبه السرد القصصي، الذي لا يخلو من نفس شعري، في كتابه الشيق (رماد الدرويش) ولعليّ، كقارئ، أنجذب إلى الكثير من الصدق في الكثير من صفحات هذا الكتاب مروراً بمجاميعه الشعرية، الطائر الخشبي، عبر الحائط بالمرآة، أعمدة سمرقند وزيارة السيدة السومرية، وما ذكرته من عناوين، على سبيل المثال لا الحصر، يتطابق مع الأشكال الفنية التي تقترن برؤية حسب الجمالية لمعنى الكتابة، وبمعنى الكشف، أيضاً، عن فنية الأنساق أو السياقات اللغوية المنتجة للعناصر المكوّنة لمنظومات وإشارات أو رموز النص الشعري . وانطلاقاً من هذه النصوص المتعددة بات بالإمكان، للقراءة النقدية، تحديد كيفية تصوّر حسب لكتابة النص، ولهذا كان لا بدَّ من التمييز عنده بين شكلين شعريين متصلين يقودان إلى جمالية الكتابة، أحدهما ذو طبيعة فنية والآخر ذو طبيعة ذاتية متصلة بالتجربة أو متماهية مع عزلته وذاكرته .
يكتب حسب نصوصه بثنائيات متبادلة المواقع، حدودها التدوير والجملة البالغة الرصانة، لكنه لا يلبث أن يعيد صياغة هذه الثنائيات بشكل آخر، خصوصاً وهو ينقلنا إلى مستوى إشاري متعدد العناصر، يكشف المعنى ويعيد صياغة الدلالة، وفي نصوصه أيضاً لا يركن حسب إلى فكرة معينة في النص بل يعيد اكتشاف النص في تداخلات لغوية تسمى بــ (نص المعنى) حسب تعبير الناقد (أ . آي ريتشاردز) وهي أسلوب يستدرج به النص إلى المعنى وبالعكس، غير أن المعنى الذي يكتشفه القارئ لا يأتي من اللغة الشعرية وحسب بل من الدلالة التي يستولدها المعنى نفسه .
تنبني أغلب نصوص حسب على فكرة شعرية أولى، يتمركز فيها الشكل الشعري وتنشدّ إليها الدلالات التي تتنقل فيها المعاني، وبهذا المعنى يشكّل النص، نفسه، فكرة النص الشعري، ذلك أن الفكرة الشعرية مجرد استطالة لفكرة أخرى موازية أكثر إتساعاً للمعنى . ويمكننا أن نضيف على قولنا اعلاه: بنى حسب نصوصه على وعي حداثي بامتياز، فعرف الفرق بين المعنى الشعري المجرد والمعنى المشخص، وبين النص الشعري المدور وبين النص الآخر، وعرف أيضاً الفرق بين لغة شعرية متكلّسة ونص بهي يتجدّد وهو يبحث عن المعنى داخل المعنى وخارجه .
لا ينتمي حسب الشيخ جعفر إلى جيل ما ولم يقع في شرك التجييل الشعري ومعياريته، لكنه استطاع أن يصنع شخصيته الشعرية الخاصة مؤسساً فضاء شعرياً يضم تجاربه كافة، إذ لم يكن سهلاً على شاعر، كحسب، يُمثل الأنموذج الانعزالي أن يتأقلم أو ينسجم مع فكرة الأجيال الشعرية فيقول: (أغوص في توحّدي) أو (أنا كالبقية من إنائي) وكذلك (بيني وبين الشعر ثوب) ولم يكن موقف الشاعر من انعكاسات وتجاذبات أو تداخلات وتقاطعات الحياة الثقافية ـ السياسية العراقية شعرياً فقط بل معرفياً، ومع هذا ابتعد الشاعر كثيراً عن هكذا حياة بتكتلاتها ومجاميعها وصخبها لأنه ظل يعمل طوال حياته في الشعر فقط، يكتب ويترجم بصمت، وقد شكل شُغل الشاعر تيمة منفردة في الشعرية العراقية والعربية على حد سواء، واشتغاله على النص المدور إنما هو صيغة فنية جمالية قلّما نجدها في نصوص أخرى، وقد تنوعت موضوعات حسب الشعرية من المرأة إلى الأسطورة والأنهار ومخلوقاتها الغريبة أو الأعشاب والحشائش مروراً بتجاربه الذاتية، لكن لغته المغايرة تظل موضوعاً جوهرياً في كل نص يكتبه .
ثمة نزعة غنائية تتجلى في نصوص معينة كتبها حسب بمهارته اللغوية واستطاع أن يخلع عنها الطابع التفعيلي من غير أن يتخلى عن التفاعيل أو الأوزان الشعرية، وهنا يكمن التحدي الشعري، أن يكتب الشاعر نصاً مزدوجاً تفعيلي/مدور ويكفي تسمية البعض من رباعياته أو نصوصه المكتوبة بهذا السياق: (يا عالماً مُلقى على كتفيَّ نعشاً: الآن، والخمرُ الرخيصةُ لم تعدْ إلا صداعاً أو دُواراً/فأقعد أليكَ وقُصّ واستقصِ الحوارا) (لو كنتُ، يوماً، في المنام خليفة/لأقمتُ لي خُصّاً وريفا/أرعى الدجاجَ/وارتعي شطاً وريفا) (ألقت عليّ القبض نملة/وأقتدتُ في تجوالها الرمليّ فيلاً/من ذا الذي يقوي فيقتطع الفتيلا) (أنا قارئ يتفحص الحرف الكدودا/متلمساً كالطين، في العدم، الوجودا) (يا شاعراً يتعّثرُ بالذيل من كلماته) .
تندرج نصوص حسب في سياق التعبير عن المسار الجمالي للغة النص المدور، وإذا جاءت بعض النصوص بعيدة عن التدوير الشعري فإنها جاءت في سياق وعي لغوي في فن الشعر والانتقال إلى مرحلة وعي البناء الفني الجمالي للنص ـ كنص أساسه الفكرة والتأملات أو الإشارات الرمزية، إذن الشاعر يشتغل على نصّه كما أنه يريد أن يبني نصوصه كلمة كلمة ولعّل هذا يشكل أحد أهم الميزات التي تعطي النص صفته الشعرية أو قيمته اللغوية المغايرة، ففي قراءتنا النقدية لنصوص حسب، أشرنا إلى مواصفات مبتسرة في فنية الكتابة الشعرية، وأستضأنا بمفاهيم جمالية فكرية لتحديد جديدها، ولعّل نصوص الشاعر لم تُكتب لا في ضوء هذه المواصفات المبتسرة والمفاهيم ولا، ربما، في غيرها من شروط الكتابة الشعرية، ولكنها وُجدت في اللغة والفكرة أو المعنى كشكل فني يمكن للنقد تحليله واستخلاصها منه، وفي هذا يتجلى جانب مهم من إنجاز حسب الشعري . وليس يهمنا القول، هنا، إن الشاعر يؤكد دوماً على المسار اللغوي المتصل بعملية التشكّل الفني للنص بل استعمل هذا الأمر لصالح التعبير، شعرياً، عن حركية الكتابة الشعرية كشكل جديد مستقل، من حيث بنائه الفني ولغته المغايرة، ومن حيث الرؤية أو الموقف والقول الذي تحمله، لنقرأ بعض الالتقاطات: (أتسمع في الطرق المبتلة وقع خطى؟) (العشب والحيوان والنار الصديقة أصدقائي) (إني استضفت فراشة وكتبت فوق جناحها القزحي ما كتبت يداي) (تتعرى الصراحة في ضوئها المتلفح بالباطل) .
شاعر يمارس التأويل في نصه، يتماهى مع المعنى ويبقي الدلالة بعيدة عن أفق القراءة النقدية، يستدرج الكلمات ويطوعها بجمل وعبارات والتقاطات لا يمكن للقراءة النقدية، أحياناً، انتزاع معانيها، لغة شعرية مغايرة لها غواياتها ورموزها وسحرها، شاعر لا يخفي سومريته الشعرية، نصوصه سومرية الشكل، أسلوباً وتكويناً وتوصيفاً، وتضاريس ملامحه الشخصية جزءاً من سومريته، وهذه الأخيرة، ولا أغالي في ذلك، هي جزء من معجمه وذاكرته وتأريخه، لغته، أيضاً، ما تزال مقيمة في ذائقة القارئ النقدي الذي يحظى أحياناً التعرف على عوالمه الشعرية المتشعبة منذ مجموعته الأولى المعنونة (نخلة الله) مروراً بمجموعته (تواطؤاً مع الزُرقة) أو (أنا اقرأ البرق احتطاباً) .
يختزل الشاعر، في البعض من كتاباته الشعرية، لعبة الشعر وارتباطها باللغة والكون والتأريخ، عبر رموز سومرية وبابلية وبهذا يتحقق النص على طبع ودربة ومعرفة بأسرار الكتابة واللغة، ومهما يكن من أمر الاختزال في البعض من نصوصه، فإنه أولاً وتالياً قد وطن ذاته الشعرية/الإنسانية بكل ما فيها من رموز وعوالم متصلة بالمكان أو محمولة على الزمان، ومن هنا أيضاً تغدو الكتابة الشعرية إعادة تجسيد الحياة أو استحضار الرموز من حيث هي حالة جمالية تحتمل التفسير، وتأتي قصيدة (الأقامة على الأرض) من مجموعته الشعرية (زيارة السيدة السومرية) ، وهي من القصائد المدورة، ضمن هذا التفسير الحسي أو الوصف الشعري للزمان والمكان أو الاختزال المرتبط بالرموز السومرية والبابلية .
خاتمة: حاولنا في هذه المقالة الموجزة، أن نقرأ مقتطفات من نتاج حسب قراءة نقدية مبتسرة وبعيدة عن التسطيح النقدي الاكاديمي، ملاحظين أهمية الإشارات الفنية للنصوص إضافة إلى التفاصيل المتصلة بالتجربة الذاتية للشاعر وعزلته، وكلها ترتبط، في نهاية المطاف، بالعلاقات اللغوية التي تشد القارئ إلى جمالية المعنى وبنوعية الكتابة الشعرية المغايرة، ومن هذه النقطة يمكننا، في مقبل الأيام، قراءة نتاج حسب الشيخ جعفر الشعري الذي يحتاج تأويله، في رأينا، إلى قراءات مستفيضة لا تتسع لها هذه القراءة الموجزة، كما لنا عودة أخرى لنصوصه المترجمة، فقد ترجم إلى العربية أشعاراً لكل من: مايكوفسكي، يسينين، الكسندر بلوك، بوشكين، حمزاتوف، أخماتوفا، باثيو وغابرييلا ميسترال.
هوامش:
1ـ حسب الشيخ جعفر/الأعمال الشعرية الكاملة/دار الحرية/1985
2ـ مبادئ النقد الأدبي/تأليف أ آي ريتشاردز/ترجمة ابراهيم يحيى الشهابي/2002
3ـ مختارات شعرية/رافائيل البرتي/ترجمة صالح علماني/دار الفارابي 1981