فلورنسا: موسى الخميسي
باجواء احتفالية رسمية كبيرة، تم افتتاح قاعات جديدة منفصلة ومستقلة ومتصلة في آن واحد داخل مبنى متحف الاوفيتسي التاريخي الذي بنيّ في القرن الحادي عشر كدار للقضاة في عاصمة عصر النهضة، فلورنسا، وتحول في زمن حكم عائلة المديشي في القرن الرابع عشر الى متحف كبير يضم اغلب اعمال فناني عصر النهضة.
والمتحف الجديد الذي اقترحه وقام بتنفيذ فكرته مديره الالماني « اييكا شميث « تكريما لرسامي القرنين 15 و16، وذلك في أعقاب سنة ونصف من أعمال الصيانة والتجديد بتمويل من المتبرعين وبلدية المدينة. وتبلغ مساحة قاعات المتحف الجديد أكثر من 1100 متر مربع، يضم المتحف الجديد نحو 250 لوحة، تم استقدامها من مخازن متحف الاوفيتسي.
وأشرف على تنظيم المعرض مدير المتحف، بالتعاون مع فريق مؤلف من كبار المتخصصين الايطاليين.
يهدف المعرض الى التعريف بنتاج فناني مدينة البندقية منذ نهاية القرن الخامس عشر حتى القرن السادس عشر الذي يعد المع حقبة فنية في تاريخ المدينة. ويركز المعرض على نتاج الفنان جيورجوني 1477-1510 والفنان تيتسيانو (1489-1576) اللذين تركا بصماتهما واضحة على مسيرة الفنون الايطالية. لقد كان فن البندقية هو الذي أسهم في رسم الصور الشخصية للناس والمناظر الاسطورية» الوثنية».
لقد تطور في اواخر القرن الخامس عشر مع أسرة بلليني الحاكمة، على ضوء تطور النزعة الحسية وازدياد مشاعر الرغبة والمسرة والمرح، وهي الامور القائمة في الفن الاغريقي والرسم الروماني للأساطير، جنبا الى جنب أناشيد الرعاة الجميلة مثل «فينوس النائمة» وفي المناظر البهية التي رسموها لشخوص اجتماعية حقيقية، جنبا الى جنب افراح الطبيعة والحياة.
يذكر ان اللوحات المعروضة في هذا المتحف الصغير، كانت محفوظة في مخازن المتحف التي تحتوي على اعمال فنية تقدر باضعاف ما يعرضه متحف الاوفيتسي، ولم يتم عرضها منذ عشرات السنين على الجمهور.
الصيارفة يدعمون الفن
اشتهرت مدينة فلورنسا الإيطالية القديمة بكونها عاصمة عصر النهضة الذي أبتدأ من سنة 1250 وحتى سقوط هذه الدويلة سنة 1550.
وقد شهدت صراعات حادة واكتسبت طابعا دراميا، إذ لم تحدث اضطرابات سياسية في الدويلات الأخرى مثل نابولي، ميلانو، فينسيا، بيزا، امالفى، جنوه..الخ كما حدثت في فلورنسا، حيث ولدت طبقات واسر حاكمة جديدة، واندحرت أخرى داخل واقع اجتماعي يشكل الانموذج للمجتمع الإقطاعي الذي كان يتسلسل على شكل بناء هرمي يقف في مقدمته التجار والصيارفة والنبلاء، ثم أصحاب الحوانيت ورؤساء النقابات، ثم عمال التراحيل، وفى اسفل الهرم كان يقف العمال والعبيد.
ومن أشهر العائلات التي حكمت فلورنسا ورعت الأعمال الفنية خلال القرن الخامس عشر هي أسرة آل مديشى التي صهرت في إمارة فلورنسا الأسلحة العقلية والفنية العظيمة لعصر النهضة وشحذتها. وقد اقتنعت عائلة آل مديشى وهي تقوض بقايا التقاليد الجمهورية والشعبية التى كانت سائدة فى هذه الامارة، وتناشد الجميع العون للقضاء على منافسيها.
ويعود الفضل في ازدهار عصر النهضة الإيطالية، إلى أميرها ( لورينسو آل مديشى 1449 – 1492) والملقب ( لورينسو الرائع)، وهو شاعر مجدد تأثر بالفلسفة الأفلاطونية المحدثة، والعديد من التيارات الفلسفية الجديدة، إذ تمكن الفن في عهده ان يقوم بدور رئيسي في الحياة الاجتماعية، ويصبح حلبة للمناقشة العامة بشأن الأفكار والآراء فى الحياة القديمة منها والجديدة، كما إن فترته جذبت أليها اشد الفنانين عمقا وكشفت عن الثروات الإبداعية لعدد من العباقرة في مجالات الفن والأدب والعلوم.
واهتم (لورينسو الرائع) بالتهيئة لإقامة متحف للفنون في المدينة، يحفظها ويخلدها، فمهدت أفكاره بعد اكثر من خمسين سنة على وفاته لتحويل قصر الحكومة الى متحف هو(الاوفيتسى) الذي اعتبر بمثابة رمز لتطور الفنون والاهتمام بها.
ويقع (الاوفيتسى) في قلب المدينة بين قصر (فيكيو) ببرجه المتميز، ونهر (آرنو) الذي يشطر المدينة الى شطرين، ويشير اسم (اوفيتسى) بمعنى الدوائر الى الغرض الرئيسي عن إنشاء هذا المبنى عام 1559، وهو أن يكون مجمعا رئيسيا لجميع دوائر دوقية توسكانا الكبرى، وكانت أسرة آل مديشى قد كلفت الرسام والمؤرخ الشهير لحياة الفنانين (جورجو فازارى)، بتصميم هذا المبنى.
أعرق متحف للفنون
وقد بدأ استخدام قصر الحكومة هذا كمتحف في عام 1580، حين بدأت اسرة آل مديشى لأسباب عديدة في توسيع نطاق هذه المجموعة من هذا البناء المعماري الرائع الجمال، وكان الأمر في البداية ولعا شديدا في الفن ووليدا للعلاقة الوطيدة مع أشهر الفنانين الذين ولدوا فى فلورنسا أو مدن مقاطعة توسكانا التي تحيط عاصمتهم الاقليمية، او الذين كانوا يعملون هناك، وكانت أسرة أل مديشى تعطف عليهم وتقربهم من بلاطها. فعندما تولى فى نهاية القرن السادس عشر ( كوزيمو الاول) وخاصة ومن بعده ولداه ( فرانشيسكو الاول) و ( فرديناندو) كورثة للعرش الدوقى مهمة رعاية المتحف، فقد جرى ذلك لاسباب تتعلق بحب الوجاهة والمركز بطبيعة الحال، وقد كانت التحف الفنية رمزا للسلطة الكبرى فى المجالين الاقتصادي والسياسي، وذلك بالتمكن من عرض هذه المجموعة الوفيرة من التحف الفنية الممتازة على الأصدقاء والأعداء والحلفاء والأقرباء على اختلاف مراكزهم ومواقعهم ومناصبهم.
أول ما يواجه الزائر لهذا المتحف الكبير هو تمثال ضخم إغريقي للبطل (هرقل) في صراعه مع وحش السنطور الخرافي. لقد كانت التماثيل الكلاسيكية القديمة من أول مقتنيات المتحف، وقد بدأ الأمر كله بثروة أسرة آل مديشى الطائلة التي لا تصدق والتي عمل ابناؤها، صيارفة ومديرو بنوك للبابا، وكانوا ا يديرون أموال الكنائس ومقابل نسبة معينة من المساهمة، وانطلاقا من هذه الثروة الأساسية فقد نمت على مرّ القرون مجموعة من الرسوم الإيطالية ما بين القرن الثالث عشر والثامن عشر.
وبتنسيق زمني وجغرافي يستطيع الزائر مشاهدة هذه المجاميع الفنية الكبيرة في صالات المتحف، ونجد على سبيل المثال العديد من اعمال الفنان (جيوتو) الذي يعد فاتح عصر النهضة. ثم تواجه الزائر أمثلة نموذجية لرسم الوجوه( البورتريت) فى القرن الخامس عشر، حيث يحصل الوجه على معالم تكاد تكون متفردة فى الرسم، وفى الخلفية يظهر منظر طبيعي فيه مسحة خيالية، ومن اشهر هذه الاعمال للفنان الخالد( روفائيل) الذى ابدع في هذا المجال عام 1518 فرسم صورة البابا ليو العاشر فى روما، ومن التفاصيل المدهشة في هذه اللوحة الناقوس وكتاب المنمنمات والعدسة الصغيرة التي تنساب يد البابا بينها بدقة وروعة متناهيتين، ومن المميزات الأخرى لهذه اللوحة التي تعتبر بحق من روائع الفن، ان (روفائيل) رسم اللوحة على الكرة العاكسة لمسند الكرسي وتفاصيل الحجرة التي جلس فيها البابا ونوافذها التي لا يكاد الزائر يتبينها بجلاء في الرسم نفسه.
ممرات الاوفيتسي السرية
ويشاهد الزائر لوحات لكبار الفنانين مثل ميخائيل انجلو، ليوناردو دافنشى، وديل سارتو، ومساجو، وعشرات غيرهم، ولكنه يقف طويلا بالتأكيد لرؤية رائعة الفنان بوتشيللى( ميلاد فينوس) وهى إضافة الى لوحته الرائعة الاخرى المعلقة بصالة لوحدها وهى (الربيع)، تعتبران من اجمل اللوحات، فتبدو (فينوس) وهى واقفة على طبق محاري وتحملها الرياح لتدفعها الى ذراعي الربيع والى جانب هذا الموضوع الواضح للفهم فهناك عدة تفسيرات للوحة كميلاد الجمال من الاتحاد ما بين الروح والمادة، او الوحدة بين الفكر والطبيعة، وقد رسم هذا الفنان العذب لوحته هذه على ضوء طلب عائلة آل مديشى عام 1486
هنالك ممر سرى ما بين متحف الاوفيتسى يعبر نهر (الارنو) على الجسر القديم (فيكيو) ليصل الى قصر( بيتى) ذو الحدائق الرائعة الجمال والتي يطلق عليها اسم حدائق( الشعوب)، ويستخدم ممر فازاري الذى علقت في بدايته اعمالا فنية ،تقدر بأكثر من 700 لوحة، وكان ممر الاتصال هذا قد بنى في الأصل لمهمات مختلفة تماما عن غرضه الحالى، فعندما سلم ( كوزيمو الاول) زمام الحكم لابنه( فرانشيسكو) عام 1565 وانسحب من القصر الدوقى( فيكيو) الى قصر( بيتى)، كلف (جورجو فازاري) بتصميم ممر يوصل بين القصرين يعبر النهر من فوق جسر ( فيكيو) القديم الذى تنتشر عليه محلات الصاغة وبائعو الاربطة والقفازات، ويقال ان ( كوزيمو) استمد فكرته من ملحمة( اوديسا) للشاعر الإغريقي الشهير( هوميروس) حيث يذكر ممرا يربط قصر( هكتور) وقصر ( بيراموث). وقد قصد ان يكون الممر طريقا للفرار يشبه الممر الذي استعمل عام 1527 عند نهب مدينة روما وسلبها حيث تمكن البابا (كليمنت السابع) من مغادرة الفاتيكان وبلوغ قلعة (الملائكة) الحصينة والرائعة الجمال والتى يطلق عليها (سانتا انجلو).
ولممر فازارى بالذات صنعت عربات صغيرة كل منها بمقعدين يجرها الخدم، وبذلك كان أفراد أسرة أل مديشى يتمكنون وبسرعة وبالخفاء من الانتقال من قصر الى اخر، وجعلت اثناء الممر دورة للمياه، كما اكتشفت نافذة اثناء اعمال الترميم عام. وتزين التماثيل القديمة والبسط الجدارية النفيسة ورسوم السقوف الزاخرة بالخيال الخصب ممرات الاوفيتسى. ودرة المتحف العالمى الذي يزوره سنويا أكثر من ستة ملايين زائر من مختلف انحاء العالم، هى قاعة(تريبونا) التى نصبت فيها أجمل التماثيل وأشهر اللوحات.