د.عمار إبراهيم الياسري
تعد التاريخانية الجديدة إحدى التيارات المعاصرة التي تتعامل مع تفكيك النصوص في مرحلة ما بعد البنيوية، وهي تسعى إلى قراءة النص قراءة تاريخية ثقافية في آن واحد من خلال الكشف عما هو مخبوء ومضمر في جوانياتها والذي يتجسد من خلال صراع المركز والهامش، إن هذه القراءة الجديدة والمغايرة ستنسف العلاقة التقليدية بين الدلالة ومصدرها، بمعنى خلخة الأعراف الدلالية السائدة في المخيال الشعبي للتلقي، وقد تعالقت القراءات التاريخانية مع انساق مفاهيمية سياسية واجتماعية وثقافية عديدة.
لم تنفك النصوص الأدبية عن محاكاة ثيمة الحرب سواء أكانت بشكل مباشر كما في الوثائق الحربية أم بشكل غير مباشر كما في تضمين آثارها ومخلفاتها على الأنساق الثقافية والاجتماعية والاقتصادية الراسخة في النص، وقد جاءت مجموعة (رصيف) للشاعر (علي سالم صخي) إحدى التجليات غير المباشرة لثيمة الحرب من خلال وضوح الأثر الدلالي لها على مختلف مشارب الحياة ومنها الذات الإنسانية التي تعرضت إلى عطب وجودي كبير جعلها تشتغل على الحفر في جوانيات محيطها المعرفي محاكية ما هو غائر ومنزوي وقابع على حواف التحقير، لذا أشتغلت القراءة التاريخانية للمجموعة على كشف زيف المنظومة الاشهارية التسلطية التي جعلت الذات الإنسانية وقودا لنزواتها الحربية أبان فترة الثمانينيات والتسعينيات من القرن المنصرم، ولو تابعنا عتبة النص الموسومة بعنوانها الرئيس (رصيف) وعنوانها الثانوي (سيرة ذاتية) نلحظ أننا قبالة راو عليم شاهد على الأحداث من خلال هذه النافذة الحياتية، فالأرصفة تعالقت مع حياة المثقفين والصعاليك والمشردين والمجانين، ومنها قرأ الشاعر ثيمة الحرب دون أي قيد مؤسساتي أو اجتماعي أو ثقافي، فالعنوان هنا يشي بالحرية من جهة وتقويض مفهوم السلطة بطروحاته النيتشوية من جهة أخرى، في حين جعل الشاعر من مشاهداته المنفلتة سيرة ذاتية صادق عليها في عنوانه الثانوي، ولم تخل نصوصه الموازية في متن المجموعة من تلك الإحالات المنفلتة ، ففي تمهيده الشعري للمجموعة نقرأ
حدث ذات مرة ..
إني وقفت على حافة هذا العالم
ولم أغادر قط..
فالشاعر يصادق على وقوفه على الأرصفة وعدم مغادرته، ففيها يصف حافة هذا العالم المليء بالمتغيرات التي عصفت بالذات الإنسانية ومن خلالها دون مشاهداته العديدة، وهذا ما بدا واضحا من خلال العنوانات الداخلية للنصوص الشعرية مثل (كلما استفقت من الحرب،انتهت الحرب، ضجيج، كفى، منفى، أرصفة الشمع)، إن المشاهدات التي تضمنتها النصوص لم تكن لوحات فوتوغرافية من الواقع، بل عمدت إلى تفكيك وتعرية كل الأنساق المؤسساتية السلطوية التي حاقت به وخلفت كل هذا الدمار.
واشتغلت نصوص المجموعة على تفكيك الأنساق السلطوية السياسية والدينية والسيسيوثقافية بمناخها الموحش الذي يعمل على التهميش والتعليب مما جعل الذات الشاعرة تقع تحت حيف استلاب وجودي مرير، ففي نصه (كلما استفقت من الحرب) تتضح هذه التمثلات حينما قال:
معك أيتها الحرب ، حملتنا الريح طيورا مهاجرة
اعتادت التحليق بانخفاض
لقد عمد الشاعر إلى وصف الحرب بالريح في حين وصف الفقراء بالطيور المهاجرة التي تحملها الريح إلى أي مصير تريد، وقد أكد الشاعر قسوة التسلط حينما جعلها منخفضة التحليق، فهي مشدودة إلى المركز الذي يحركها على وفق رغباته وكأنها كائنات (زومبي) منصاعة له، ولكن الشاعر فكك المنظومة السلطوية السياسية وتمرد على نسقها العام حينما قال:
الشوارع القصيرة الأذرع صار بمقدورها أن تصرخ
هكذا تعيد التراب من الجسد ، الرحم من الطفولة
الطفولة إلى ظهرك.
في حين تجسدت الأنساق السلطوية الدينية في نصه (أبي الراقص) حينما قال:
أبي الراقص بجوار الحرب
الشظايا الملطخة بيعسوب أيامنا، لن تنتهي
فالموروثات الدينية دائما ما تحاول إضفاء الشرعية على صراعاتها مع الأخر تحت مسميات عديدة حتى تصل إلى مبتغياتها، والشاعر هنا جعل من الرقص قبالة الحرب ثيمة ميتافيزيقية تبرر وجودنا في محرقتها، ثم عمل على توجيه ضرباته لخلخة هذا اللوغوس الراسخ في مخيال الوعي الجمعي حينما قال في موضع أخر من النص:
لماذا رائحتك ليست كرائحة الفجر؟
الست شهيدا!
لا عليك أبي، سأكفن جسدك بالريح
وهو هنا يفضح الموروث الجمعي حينما يفند رائحة الجسد الزكية المتوارثة في الأدبيات الدينية، فالقراءة التاريخانية تحاول فهم التاريخ من خلال البنية الأدبية من جهة ومن خلال المسكوت عنه والقابع على حواف التحقير من جهة أخرى، والشاعر هنا أدان الحرب بمفهومها اللاهوتي الذي يعده عملية تدجين للذات الإنسانية من اجل مصالح فئوية ضيقة.
ولم تخل المجموعة من محاولة تقويض الأنساق السيسوثقافية التي تحاول إسباغ مفهوم القداسة على الحرب ، ولو تأملنا نص (أسئلة) نلحظ ذلك في قوله:
مسرعا يمضي الوقت حين يمر بمحا ذاتهم، الفقراء الذين
يحاولون الاستلقاء بكل هذا الكم من الحروب ، لن ينجوا.
فالشاعر هنا يعري الأنساق السيسيوثقافية التي تشتغل على جعل الفقراء وقودا للمعارك، وهو يخاطب الأنساق الاجتماعية والثقافية بقوله (اتركهم وشأنهم أيها الأمل) ، فالأمل هنا كناية عن الطروحات الاجتماعية والثقافية التي تخدعهم بمستقبل اخضر إذا ما عاقروا الحروب، في حين وجه الشاعر ضرباته إلى هذه المفاهيم الزائفة من اجل حياة متشحة بالمحبة والوئام.
تشتغل القراءة التاريخانية إلى ما هو ابعد من الوثيقة التاريخية، وهذا ما ذهب إليه الناقد الأمريكي (ستيفن غرينبلات) حينما قال في النهاية لا بد للتحليل الثقافي الكامل أن يذهب إلى ما هو أبعد من النص ليحدد الروابط بين النص والقيم من جهة، والمؤسسات والممارسات الأخرى في الثقافة من جهة أخرى، ومن هنا كشفت مجموعة (رصيف) الحيل التي يسعى مروجي الحروب إلى ترويجها.
• رصيف مجموعة شعرية للشاعر (علي سالم صخي) صدرت عن دار عدنان للطباعة والنشر والتوزيع 2018.