فارس آل سلمان
رئيس الهيئة الادارية لمنتدى بغداد الاقتصادي
اثار مقترح توقيع اتفاقية اقامة منطقة تجارة حرة بين جمهورية العراق و دولة الكويت جدلاً واسعاً في الاوساط الاقتصادية و السياسية ، وعليه اجد انه من المسؤولية الاخلاقية و الوطنية تسليط الضوء على حيثيات الصراع النفطي الخليجي و الاقليمي ، و الذي يعد السبب الرئيس الذي دفع بالكويت لاقتراح هذه الاتفاقية ، و من الضروري ان نطلع الرأي العام والحكومة على حقائق الامور وجذورها التاريخية من اجل ان لا يفرط العراق في حقوقه الوطنية ، و من اجل بلورة ستراتيجية للدفاع عن مصالح العراق الاقتصادية في مجاله الحيوي و الاقليمي .
جذور الصراع:
لابد من الاشارة هنا لاتفاقية (العقير 2/12/1922) التي عقدت بين شيخ الكويت ( مثله جون مور الوكيل السياسي البريطاني في الكويت) وعبد العزيز آل سعود (سلطان نجد لاحقا اصبحت المملكة العربية السعودية) . وكان مهندس الاتفاقية السير بيرسي كوكس المندوب السامي البريطاني في العراق ، والذي لعب دور الوسيط في تلك الاجتماعات ، وتم بموجب الاتفاقية ترسيم الحدود الشمالية لسلطنة نجد مع مملكة العراق والكويت. وتعتبر الاتفاقية ملحقاً لاتفاقية المحمرة. وقد فرضها الاحتلال البريطاني على الحكومة العراقية الوليدة آنذاك مستغلا ضعف موقف الملك فيصل الاول لكونه ليس عراقيا ، اذ هدده الانكليز بخلعه ان لم يرضخ لرغباتهم ، لاسيما وان جميع هذه الاراضي التي تحدثت عنها الاتفاقية كانت خاضعة لولاية البصرة في العهد العثماني وصولا الى 12 ميلاً شمال الرياض ( اي انها اراض عراقية لغاية احتلال بريطانيا للعراق) وهذا ما طالب به العراق في حينها. اذ استقطع الانكليز هذه الاراضي من (ولاية البصرة) ، و اراض اخرى من ولاية الموصل (بموجب معاهدة لوزان عام 1923) عقوبة للعراقيين على مشاركتهم في معركة حصار الكوت و اشعالهم لثورة العشرين. اذ اقتنع الانكليز انه لا يمكن ضمان ولاء العراقيين ، والمجازفة بوضع كل مكامن النفط في المنطقة تحت سيطرتهم .
وبعد هذه الاتفاقية تركت منطقتان متنازع عليهما ، الاولى بين العراق و السعودية ، و الثانية بين الكويت و السعودية ، سميتا بمنطقتي الحياد . ولم تنه هذه الاتفاقية مشاكل المنطقة ، فقد فرض سلطان نجد حصارا اقتصاديا على الكويت بهدف اخضاعها ، الا ان جلاء القوات البريطانية من العراق عام 1932 و انضمام العراق لعصبة الامم كدولة مستقلة ، و خسارة بريطانيا لميناء البصرة و قاعدة الشعيبة الجوية دفعت بريطانيا للاهتمام بالكويت مرة اخرى ( وهذا تكرر بعد مئة عام عندما انسحبت القوات الاميركية من العراق و اتخذت من الكويت قاعدة مركزية لتخزين المعدات البرية للجيش الاميركي) . وقامت بريطانيا في حينها بقطع المعونة المالية عن سلطان نجد وحاصرت موانئ الاحساء ما ادى لرضوخه و رفع حصاره عن الكويت . لكن بروز نفوذ الولايات المتحدة الاميركية في المنطقة و حصولها على امتياز التنقيب عن النفط في الاحساء عام 1933 غير موازين القوى لصالح سلطان نجد الذي غير اسم سلطنته الى المملكة العربية السعودية.
في عام 1965 وقعت الكويت و المملكة العربية السعودية اتفاقية اقرت بتقسيم المنطقة المحايدة الى قسمين متساويين ، فضلا عن تنظيم استغلال الثروات الطبيعية بجميع أنواعها بما فيها الحقول النفطية والغازية سواء كانت برية أم بحرية ، وبقاء امتيازات النفط سارية المفعول ، بحيث يحترم كل طرف حقوق الآخر في الجزء الذي يضم إلى إقليمه ، وهذا هو الوضع القانوني الحاليّ للمنطقة .
في عام 2009 اندلع الخلاف من جديد على خلفية تجديد السعودية لعقدها مع شركة “شيفرون” النفطية الأميركية في حقل “الوفرة” المشترك لثلاثين عاماً ، و عدم وضع تسوية لجزيرتي (أم المراديم) و(قاروه) اللتين تطالب الكويت بضمهما إلى سيادتها ، بينما تطالب السعودية بممارسة السيادة المشتركة مع الكويت عليهما، لذلك لم تستطع الاتفاقيات بين الطرفين معالجة الموضوع سواء بالسيادة أم بتقاسم وإدارة الثروات الطبيعية.
في آذار 2010 وقعت الكويت والسعودية عدة اتفاقيات لتنظيم العمل في هذه المنطقة المتنازع عليها نفطيا، حيث تضمنت، ان أي نزاع ينشأ بين الطرفين ولم يتم احتواؤه خلال مدة معينة، يجب أن يُعرض على مركز التحكيم التجاري الخليجي التابع لمجلس التعاون الخليجي.
وفي عام 2014 أوقفت السعودية التصدير من حقل الخفجي البحري المشترك بشكل مفاجئ ودون إعلام الجانب الكويتي ، ما تسبب بخسائر فادحة للجانب الكويتي الذي لوح على إثره بالاتجاه إلى محكمة العدل الدولية في حال استمراره واعتبره يمس سيادة الدولة على أراضيها. وفي عام 2015 تم وقف الإنتاج من حقل “الوفرة”المشترك. ومنذ ذلك الوقت ، فشلت جميع المساعي للتوصل الى اتفاق بين الطرفين لإعادة تشغيل الحقلين حتى هذه الساعة. وفي ذات الفترة نشب خلاف جديد بشأن أعمال تطوير حقل (الدرة) البحري الذي يحتوي على 200 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي و310 ملايين برميل من النفط ، وتشارك فيه إيران أيضًا ، وأوقفت السعودية الإنتاج فيه عام 2014 .
التحديات التي تواجه الكويت:
1 – تأثر المجتمع الكويتي بالتيارات الفكرية و السياسية الناجمة عن الصراع الايديولوجي الايراني ، السعودي ، القطري ، التركي الذي انعكس على تشكيلة مجلس الامة الكويتي .
2 – سقوط العقد الاجتماعي في الكويت و الذي صمد لمدة 100 عام ، وهو ان المشيخة و الحكم لآل الصباح ، اما المال و التجارة فهما لكبار شيوخ العائلات الكويتية . الا ان تفشي الفساد المالي لدى بعض وزراء الحكومات الكويتية انتج سخطا شعبيا ، و ارتفعت الاصوات المطالبة بالعدالة الاجتماعية و حقوق الفرد.
3 – مرور الكويت بازمة الركود و الكساد الاقتصادي المستمر منذ عام 1990 و فقدانها لموقعها المنفرد في الاقليم كمنطقة حرة تعيد التصدير للعراق و السعودية و ايران ، فضلا عن بزوغ موانئ منافسة في الامارات العربية المتحدة و في المملكة العربية السعودية ، كل ذلك ادى الى ارتفاع نسبة البطالة التي تضرب اطنابها في اوساط الشباب الكويتي .
4 – انخفاض انتاجية (حقل برقان) كثيرا ما دفع الشركة المشغلة للحقل الى الاستعانة بتقنية الضخ و الحقن منذ سنوات بعيدة ، وهذا رفع الكلفة الانتاجية للبرميل في وقت تعاني فيه الاسواق العالمية من وفرة المعروض و الذي ادى بدوره الى انخفاض الاسعار. فخلال الأعوام الـ4 الماضية تقلصت إيرادات الكويت بنحو 50% لتنخفض من 104 مليارات دولار في العام المالي 2013/2014 إلى 52 مليار دولار في العام المالي 2017/2018، وقد قابل هذا التراجع الكبير في الإيرادات ارتفاع المصروفات بنسبة 2%.
كما ان وزیر المالیة الكویتي الدكتور نایف الحجرف اعلن في 22 كانون الثاني 2019 ، إن الموازنة العامة للسنة المالیة 2019/ 2020، تتوقع عجزا بنحو ( 25.3 ملیار دولار)، وتتوزع الإيرادات ، بواقع (47.7 ملیار دولار) إیرادات نفطیة ، و (6.1 ملیار دولار) إیرادات غیر نفطیة.
ويذكر ان دراسة حكومية كويتية كشفت في 10 تموز 2019 أن موجودات صندوق الاحتياطي العام تراجعت 50% عن مستوياتها البالغة 140 مليار دولار بمنتصف عام 2015، لتصل إلى نحو 70 مليار دولار بنهاية شهر حزيران 2019. اي أن الاحتياطي العام سيُستنزف خلال 4 أعوام فقط اذا استمر تسجيل الموازنة عجزا ماليا ، وعدم قدرة الحكومة الكويتية على تنويع مصادر دخلها والتخلي إلى حد كبير عن اعتمادها على أسعار النفط كمصدر وحيد لإيراداتها، خاصة في ظل تذبذب الأسعار نتيجة التوترات السياسية في المنطقة والصراع المتصاعد بين الولايات المتحدة وإيران. وتمتلك الكويت صندوقا آخر ، هو الصندوق السيادي الكويتي الذي تديره الهيئة العامة للاستثمار أو ما يُعرف بصندوق احتياطي الأجيال القادمة، بأصول تبلغ نحو 592 مليار دولار، وهو رابع أكبر صندوق سيادي في العالم (بحسب بيانات معهد صناديق الثروة السيادية).
5 – تدعي الكويت ان حجم الاحتياطي النفطي الكويتي هو 100 مليار برميل (وهو ما يعادل حوالي 10% من الاحتياطي النفطي العالمي) ، الا ان الخبير الكويتي المتخصص في تكرير وتسويق النفط عبد الحميد العوضي قال (في تصريح له في صحيفة الوطن الكويتية بتاريخ 27/10/2013 ) ان البيانات الصادرة عن وكالة التصنيف (موديز) والتي تتعلق بالاحتياطي النفطي الكويتي و التي اعطت عمرا اطول للنفط الكويتي (قرابة 92 عاما) هي أرقام لا تستقيم مع الواقع ومبالغ فيها. ومن الجدير بالذكر انه بمقارنة التقديرات الحكومية الكويتية المتفائلة مع التقارير العالمية نجد هناك تناقضاً كبيراً، فقد نشرت مجلة :
(Petroleum Intelligence Weekly)
المتخصصة في مجال الدراسات النفطية في العشرين من كانون الثاني سنة 2006 تقريراً أوردت فيه أن الاحتياطي النفطي للكويت هو في الحقيقة نصف المعلن رسمياً من قبل الحكومة الكويتية، وتقول المجلة في تقريرها أنها حصلت على وثائق وبيانات من داخل شركة نفط الكويت تثبت أن الاحتياطي النفطي المؤكد وغير المؤكد هو حوالي 48 مليار برميل فقط ، أي حوالي نصف ما هو معلن رسمياً. كما أشارت المجلة الى ان هذا الاحتياطي ، فيه 24 مليار برميل فقط هي مؤكدة بالكامل، وإن 15 مليار برميل من هذه المؤكدة موجودة في أكبر حقل في الكويت وهو حقل برقان. و هذا الاحتياطي العام قد تناقص نتيجة الانتاج اليومي و عدم وجود استكشافات جديدة منذ تاريخ نشر الدراسة الى يومنا هذا ( مرت 13 عاما) .
علما ان الكويت و السعودية تبالغان في حجم الاحتياطي النفطي ، اذ يؤكد الدكتور ممدوح سلامة (شغل منصب مستشار البنك الدولي لشؤون النفط والطاقة، وهو خبير دولي في اسعار النفط والسياسات النفطية) ان احتياطي النفط السعودي هو 55 مليار برميل و ليس 277 مليار كما تعلن السعودية ، و ان آخر برميلي نفط ينتجان في العالم سيكون برميل من العراق و الاخر من فنزويلا. وهذا ما يفسر ضغط السعودية على دول الجوار من اجل بسط نفوذها على المكامن النفطية في المنطقة من خلال الضغط وفرض سياسة الامر الواقع.
6 – استمرار الضغط الاقتصادي للرئيس الأميركي دونالد ترامب على الكويت . ففي 27 تموز 2019 ، طالب الرئيس الاميركي منظمة التجارة العالمية بتغيير صفة مجموعة دول من أعضاء المنظمة تصف نفسها بالنامية رغم أنها غنية ( على حد تعبيره) ، من بينها الإمارات وقطر والكويت، مهددا باتخاذ إجراءات أحادية الجانب تجاهها حال عدم حدوث ذلك . وأوضح الرئيس ترامب أن هذا الإصلاح يجب أن يهدف إلى منع الدول النامية (المعلنة من طرف واحد) من حصد (فوائد تجارية غير عادلة) تحصل عليها بسبب قواعد المنظمة . و اكد انه سيتخذ اجراء لمنعها من حصد (فوائد غير عادلة) . وتوعد بأن بلاده، وفي حال عدم تحقيق منظمة التجارة العالمية (تقدما جوهريا) في إجراء الإصلاح الخاص بهذا المجال في غضون 90 يوما، فان بلاده ستوقف تعاملها مع تلك الدول المذكورة باعتبارها نامية، موضحا أن الولايات المتحدة لن تدعم أيا من هذه البلدان في إطار منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية .
7 – الصراع مع المملكة العربية السعودية بسبب المكامن النفطية في المنطقة المتقاسمة ادى الى توقف الانتاج النفطي من حقول تلك المنطقة . ففي مطلع تشرين الأول 2018 قام ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بزيارة رسمية قصيرة للكويت وناقش الطرفان موضوع الحقول النفطية المشتركة بين البلدين. وقد اثيرت أنباء عن فشل الزيارة و التي كان من المفترض ان تنهي الخلاف الطويل بين البلدين بشأن حقول النفط المشتركة في المنطقة المحايدة (المتقاسمة) في مدينتي الوفرة والخفجي (حقل الخفجي البحري، وحقل الوفرة البري) . علما ان نفط المنطقة المتقاسمة بين الكويت و السعودية يمثل أهمية كبرى للكويت مقارنة بالسعودية ، اذ تصل حصة الكويت من نفط المنطقة إلى 9.8% من إنتاجها الكلي، ويغطي نحو 23.7% من عجز الميزانية العامة، في حين لا تعادل حصة السعودية سوى 2.5% من إنتاجها الكلي، وهو ما يشكل 8.1% من عجز الميزانية العامة.
8 – يجب الاخذ بنظر الاعتبار تصريح للرئيس الاميركي ترامب : (احب ان اذكر الكويت ، الكويت ليس لديها شيء آخر غير المال ، تمت مهاجمتها من قبل العراق و احتلها، اغنياؤها العرب انتقلوا الى لندن ومن ثمة نحن حاربنا و خسرنا ارواحا ومليارات الدولارات و اعدنا لهم الكويت مقابل لاشيء، كان علينا القول اعطونا 50% من كل شيء لل 50 سنة القادمة او للابد) .
9 – ردت الكويت بالاتفاق الاقتصادي الستراتيجي مع الصين الذي سجعل جزر الكويت المتاخمة للعراق و منطقة شمال الكويت محمية صينية ، تهدد المصالح الستراتيجية الاميركية في المنطقة. كما طرح مشروع في مجلس الامة الكويتي لتعديل الدستور كي يسمح بتجنيس غير المسلمين .
10 – انزعاج المملكة العربية السعودية من الدور الكويتي في الأزمة الخليجية مع قطر ، فقد سعت الكويت إلى البقاء على الحياد وسعت للتوسط في الخلاف، لكن السعودية لا ترى في هذا الدور مكسبًا لها بل قد يكون مضرًّا بمصالحها، وتربط تلك التحركات بسعي الكويت إلى تقوية علاقاتها مع الدوحة.
11 – وفي تحرك ربما يعزز الخلاف السياسي مع المملكة العربية السعودية ، وقعت الكويت مؤخرًا على خطة تعاون اقتصادي و دفاعي مع تركيا وصف بانه يهدف إلى تعزيز العلاقات الثنائية فيما يخص التجارة والاستثمارات البينية ، و الحقيقة على مايبدو ان الكويت تتخوف من اجتياح عسكري ، فضلا عن اختلاف وجهات النظر بين البلدين الخليجيين بشأن العلاقات مع إيران المنافس اللدود للسعودية في المنطقة، حيث حافظت الكويت على خطوط الحوار مفتوحة مع إيران، بل هنالك توجه كويتي نحو تخفيف التوتر مع إيران.
12 – فشل مجلس التعاون الخليجي بمشروع التكامل و تكريس الاتحاد الكونفيدرالي ، وفشل مشروع العملة الخليجية الموحدة ، فضلا عن اسقاطات حرب اليمن و حصار قطر الاقتصادي ، و بالنتيجة فان مجلس التعاون الخليجي قد تفكك و رفعت مظلته عن الكويت .
13 – ان العمليات العسكرية في مضيق هرمز تؤثر على البحرين وقطر والعراق و الكويت ( للسعودية و الامارات خيارات تصدير اخرى) ، و العراق بامكانه ان يناور نوعا ما من خلال موقعه الجغرافي ، الا ان الكويت لا خيارات لها غير الطرق البرية في السعودية و العراق ، و بما ان السعودية على خلاف نفطي مع الكويت ( وخلاف سياسي مستتر) فالافضل لصانع القرار الكويتي الاستعانة بالعراق لكنه فضل ان يفعل ذلك بطريقته و بشروطه ، و تكرس لذلك في بعض بنود مسودة اتفاقية اقامة منطقة تجارة حرة بين البلدين و التي تصب في تأمين تصدير الصادرات الكويتية النفطية وغير النفطية .
ما جاء في النقاط اعلاه امر داخلي يخص الكويت و لا يجوز التدخل فيه ، لكن من الواجب اخذه بنظر الاعتبار في عملية تقييم الحالة الكويتية ، كي يضع المفاوض العراقي نقاط قوته نصب عينيه ، دون ان يغفل ان الكويت خاصرة العراق و جزء من امنه القومـي.
مسودة الاتفاقية المقترحة:
يجب ان ننظر الى الستراتيجية الكويتية كحزمة واحدة ، رغم ان الكويت قد سوقتها فرادا بهدف التغطية و تيسير الترويج وهي: مشروع ميناء مبارك الكبير، اتفاقية تنظيم الملاحة في خور عبد الله ، مشروع اتفاقية الاستثمار لحقول النفط المشتركة ، مشروع الربط السككي ، والاتفاقية مع الصين للاستثمار الاقتصادي لجزر وربة و بوبيان و مناطق شمال الكويت .
ان الاتفاق الاقتصادي الستراتيجي مع الصين سيجعل من جزر الكويت المتاخمة للعراق و منطقة شمال الكويت مستعمرة اقتصادية صينية متقدمة بامكانها تصنيع بضائع صينية يمكن ان تعد منتجا وطنيا كويتيا (و ممكن ان تحمل جنسيات و صفات آخرى حسب الحاجة) بغية تصديرها الى العراق بشكل اساسي و دول الجوار و اقليم شرق البحر الابيض المتوسط ، و لاحقا اوروبا ، فضلا عن استغلال الطرق البرية العراقية و خطوط السكك الحديدية للوصول الى تركيا و موانئ شرق المتوسط ومنهما الى السوق الاوروبية.
وهنا يجب الاشارة الى ان اغلب بنود مسودة الاتفاقية المقترحة فضفاضة و قابلة للتأويل ، واحيانا غير محددة و تركت نهاياتها سائبة . فما ورد في الفقرة ثانيا من المادة 1 ، و المواد 3 و 7 هو تدمير للمنتج الوطني العراقي . اما المادة (14) عبور الشاحنات: باعتقادنا ان هذه المادة هي الغاية و الهدف الكامن من هذه الاتفاقية بغية تفعيل عمل (ميناء مبارك) ، بعد ان خنقت اتفاقية خور عبد الله التي وصفها مجلس النواب العراقي (بالمذلة) مينائي ام قصر و خور الزبير . المادة (15) وفقراتها 1 ، 7 ، 9 ايضا لا تصب في مصلحة العراق . المادة (16): هدف هذه المادة ان يكون العراق سوقا للكويت ، لذا فان هذا النص يسلب العراق حق رد العدوان الاقتصادي او حق الرد بالمثل ، وهنا نود الذهاب ابعد من ذلك في تحليل خطورة هذا النص و هو سلب الولاية القانونية من الحكومة العراقية على الاراضي العراقية ، بمعنى آخر هو سلب السيادة و ليس انتقاصها . المادة (17): هذه المادة لاتصب بمصلحة العراق ايضا .
و السؤال هو : ما المتوقع للعراق ان يجنيه من انشاء منطقة تجارة حرة بين البلدين بموجب اتفاقية سيادية نصها فضفاض وعام و قابل للتأويل وفي احيان كثيرة مجحف للعراق ؟ وهل العراق مجبر بالقبول باتفاقية غير متوازنة تفرط بالحقوق الوطنية العراقية ؟
لماذا لا نحل الامور العالقة مع الكويت بحزمة واحدة تنصف البلدين، ابتداء من موضوع الديون وصولا الى التكامل الاقتصادي. مع تنبيه المفاوض العراقي الى ان يأخذ في اعتباره موقع العراق الجغرافي و قوته الديموغرافية ، ومصادر ثرواته ، وقوته العسكرية . و ان يكون التفاوض وفقا لوزن كل بلد .
التوصيات و المقترحات:
من خلال ما ورد في بنود الاتفاقية المقترحة يبدو ان الكويت تستعد لعصر ما بعد النفط وهي مرحلة لن تكون سهلة عليها وربما ستكون مأساوية للكويت ما لم تستعد لها بشكل شامل ودقيق . لذلك وضعت الكويت ستراتيجيتها على ضعف العراق في هذه المرحلة. ويذكر ان حزمة الاتفاقيات التي تقترحها الكويت ، قد عززتها بحملة ترويج و تسويق تبناها الساسة الكويتيون منها : ان الثقة بين الشعبين الشقيقين ستدفع علاقات البلدين نحو علاقة تكاملية في كل المجالات. لكن عند اسقاط هذا الكلام على نصوص الاتفاقيات المقترحة نجد انها خلاف ذلك ومجحفة للعراق.
و نود ان نوضح للاشقاء الكويتيين ان الخيار العادل للشعبين الشقيقين العراقي و الكويتي اللذين فرقتهما السياسة و الاطماع الاجنبية و اوغلت في دمائهما ، هو انهما من يجب ان يقررا مصيرهما المشترك من خلال عدم السماح مرة اخرى للسياسيين بالمقامرة بمصيرهما. فلا يمكن للكويت ان تستمر اكثر في ضوء الصراع الاقليمي و الدولي في المنطقة . وعام 1990 وما تبعه كان نهاية حتمية قد تم تأجيلها مؤقتا ، ودفع الشعبان من دمائهما البريئة ثمن مغامرات السياسيين في البلدين . ولن يرضى الشعب العراقي بتكرار سيناريو عام 1990 مرة ثانية سواء من العراق او غير العراق ، وباي شكل من الاشكال .
بلا شك نحن نحترم جهود ساسة الكويت للدفاع عن بلدهم و سعيهم لديمومة بقائه ، لكن ليس على حساب الشعب العراقي واستعباده. و يبدو ان هناك البعض في القيادة الكويتية لم يستوعب الدروس المستنبطة من احداث عام 1990 في تعاملهم الحالي مع بغداد والتي دفع ثمنها الابرياء من الشعبين . ويذكر ان الشيخ سعد الصباح رحمه الله عندما كان وليا للعهد قد اعلن بجرأة بانه يتحمل مسؤولية ما حصل ، ولاحقا رفض بشجاعة الترسيم القسري للحدود ، و قال ان منحنا اراضي عراقية يخلق مشاكل مستقبلية مع العراق ، لكنه تعرض الى ضغوط من قوى دولية كانت ترغب في اضعاف و اذلال النظام العراقي في حينها. ما اضطره لقبول الترسيم الجديد على مضض . ان الشعب العراقي هو من دفع التعويضات للكويت ، وهو من عانى 13 عاما تحت الحصار و ليس القيادة العراقية السابقة ، لذا فإن الأمور مرشحة للتطور باتجاهات عدة ، في ظل تنامي روح الانتقام لدى البعض في القيادة الكويتية . ونرى ان على هذا البعض ان يراعي في علاقات الكويت مع العراق الاحترام المتبادل، وتجنب الاستفزاز الذي يحصل الآن من تصرفات تفتقد للحصافة و الحكمة ، كبناء ميناء مبارك الذي يهدف الى خنق موانئ العراق ، والتجاوز على حقوله النفطية وحدوده و الاستحواذ على مياهه وقنواته الملاحية ، فضلا عن محاولات تكبيله باتفاقيات اقتصادية غير منصفة. اننا نهيب بالساسة الكويتيين ان يتراجعوا عن السقف العالي بالطموح ، و التخلي عن استفزاز الاخ الكبير ، فضلا عن تداول المواضيع المشتركة بشكل واقعي يراعي العدالة مع الاشقاء لتحقيق المصلحة الوطنية لجميع الاطراف ، و سحب فتيل الازمات ، و الحد من تدخل القوى العالمية في الاقليم بهدف تحقيق السلام الشامل و العادل في المنطقة.
لذا ولديمومة السلام و للحفاظ على حقوق الشعبين العراقي و الكويتي ، الذين تربطهما روابط اجتماعية و عشائرية ودينية اقوى من اي حدود سياسية ، نرى ان تعمل حكومتا البلدين فعلا نحو التكامل الاقتصادي بما يضمن حقوق الشعبين وامنهما المشترك ، لا بمحاولات ابرام اتفاقيات غير متوازنة يغبن فيها حق العراق.
ان المناخ السياسي اليوم في ضوء الصراع الدولي و الاقليمي يصب في مصلحة العراق فيما لو احسن سياسيوه استثمار الفرص من خلال توظيف المصالح الاقتصادية ، فالكويت اليوم مهددة اقتصاديا و امنيا و عسكريا ككيان ، ليس من العراق و انما من قوى دولية واقليمية اخرى.
لقد نجحت القوى الكبرى بخنق العراق و ابعاده عن البحر العميق ، فضلا عن تدميره اقتصاديا ، الامر الذي يجعله بحاجة للكويت مثلما هي بحاجة له امنيا و عسكريا و اقتصاديا . ومن المسلمات فان اي مشروع شراكة لن يحيا طويلا مالم يكن متوازنا و عادلا . لذا فالاوجب على الطرفين الذهاب نحو مشروع التكامل الاقتصادي الحقيقي . او الولوج الى مرحلة متقدمة اكثر من مشروع التكامل الاقتصادي ، وهو ان تقترح الحكومة العراقية على الحكومة الكويتية مشروعا بديلا عن حزمة الاتفاقيات المقترحة والمجحفة للعراق ، و هو مشروع الاتحاد الكونفيدرالي اسوة باتحاد الاراضي المنخفضة (هولندا و بلجيكا) ، واسوة بالسوق الاوروبية المشتركة ، ولنكون طموحين اكثر … أسوة بالاتحاد الاوروبي . و تكون نواته الاتحاد الكونفيدرالي العراقي الكويتي بما يضمن سيادة الكويت و حمايتها بالدرع العراقي من القوى الدولية والاقليمية الطامعة في المنطقة، فضلا عن فتح الاراضي العراقية للكويت للوصول الى اوروبا و شرق المتوسط . و بذات الوقت فان الاتحاد الكونفيدرالي سيطمئن الكويت للابد من ان العراق لن يسعى لضمها عنوة ، و سيؤمن للكويت على الصعيد العسكري و الامني مظلة اقل تكلفة من تكلفة اتفاقيات الكويت الامنية و العسكرية مع دول اخرى ، اذ إن الكويت تمثل خاصرة ستراتيجية للعراق، و يشكل العراق عمقا ستراتيجيا للكويت ، و سيكون الاتحاد الكونفيدرالي ردعا ستراتيجيا لمن يفكر في اجتياح او ضم الكويت من دول المنطقة او القوى الكبرى .
وبذات الوقت على العراق تطوير رؤية ستراتيجية اقتصادية ، سياسية ، عسكرية ، وثقافية من خلال التعامل مع الهواجس والمخاوف الكويتية بواقعية و تطوير العلاقة معها وفقا للمعايير و الاعراف الدولية و اعطائها الضمانات بصيانة استقلالها و سلطتها .
علما ان الكويت لا تمتلك الخيارات المتوفرة للعراق ، فالعراق يمتلك خيارات متعددة منها الانضمام للتحالف الاميركي السعودي ، او للتحالف الروسي الايراني الصيني او للتحالف البريطاني الكويتي الايراني ، وهذا الاخير لمح له وزير الدفاع الكويتي الشيخ ناصر صباح الأحمد اثناء استقباله لرئيس مجلس النواب العراقي مؤخرا ، لا سيما و ان بريطانيا لاتزال متمسكة بالمحافظة على الاتفاق النووي ، ولم تعتبر إيران عدوا لغاية الساعة ، وموضوع حجز ناقلتي النفط تم تجاوزه بتسوية عبر وسطاء . اذ ان خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيحررها من القيود الاوروبية ، وهي تطمح في ان تعوض ما خسرته من نفوذ و قوة ، خصوصا و ان عقد مجلس التعاون الخليجي قد انفرط بعد حصار قطر وتحفظات عمان على معظم القرارات ، فضلا عن اصرار الكويت على استقلالية قرارها ومحاولاتها لتشكيل قطبية خاصة بها. وهذا يعني ان هناك حاجة لمنظومة امنية و اقتصادية إقليمية جديدة في المنطقة ، يمكن ان تكون بقيادة العراق لانه يمتلك القوة الكامنة ، وتكون هذه المنظومة اشبه بمنظومة الامن الاوروبية…فهل يعي المفاوض العراقي ذلك ؟ وهل سيوظف ادواته من اجل تحقيق مكاسب لوطنه؟ ام سيضيع الفرصة كما ضاعت فرص كثيرة قبلها .
و كخلاصة علينا حماية الكويت و بقية دول المنطقة من شر الحروب التي لن تجلب الا المآسي لشعوبها وتهدر ثرواتها لصالح الشركات المنتجة السلاح.
ومن الله التوفيق.
*هذه المقالة تعبر عن وجهة النظر الاقتصادية لكاتبها ولا تمثل بالضرورة رأي الجريدة.