ما لحق بالاستخبارات الأميركية من ضرر لا يمكن تداركه

الصباح الجديد – متابعة:
كتب كينت هارينجتون الذي يعد من ابرز العقول التي عملت في وكالة الاستخبارات المركزية ، تحليلا لوضعها الحالي مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب والذي وصفه بالرئيس العدائي ومدى رغبته في اخضاعها له:

كينت هارينجتون*
“في محاولة فهم ما يحدث في الأنظمة الاستبدادية ــ سواء كانت في موسكو، أو هافانا، أو بكين، أو بيونجيانج ــ يولي المحللون قدرا كبيرا من الاهتمام لصعود وسقوط قادة أجهزة الاستخبارات. وفي حالة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي يطمح إلى اكتساب لقب الرجل القوي، ينبئنا التراجع عن ترشيح جون راتكليف، عضو الكونجرس الجمهوري عن ولاية تكساس، خلفا لمدير الاستخبارات الوطنية المنتهية ولايته دان كوتس، بالكثير حقا.
لم يكن راتكليف يتمتع بأي مؤهلات واضحة لهذه الوظيفة، غير ولائه المتزلف لترمب. ورغم أن ترمب سحب الترشيح، فإنه لم يفعل ذلك من منطلق اهتمامه بالأمن الوطني الأميركي، بل بسبب تخوفه من عدم تأكيد مرشحه. الواقع أن مجرد تفكير ترمب في مرشح غير لائق لهذه الوظيفة يشير إلى مدى رغبته في إخضاع أجهزة الاستخبارات.
خلال أول عامين من رئاسة ترمب، ظلت القيادة المهنية للمجتمع الاستخباراتي في الولايات المتحدة على تحفظها وتكتمها، بعد أن خلصت إلى أن الصمت أفضل تكتيك في التعامل مع رئيس عدائي ولا يلتزم بأي ضابط أو رابط. ولكن يبدو أن مسألة راتكليف تشي بتحد جديد، ليس فقط لمؤسسة الاستخبارات الأميركية، بل وأيضا لحلفاء الولايات المتحدة، الذين قدروا لفترة طويلة القيمة المتمثلة في القدرة على الوصول إلى مجتمع استخباراتي غير مسيس في العاصمة واشنطن. ولكن بسبب رغبته في تثبيت المتملقين المتزلفين في العديد من وظائف الأمن الوطني العليا، قام ترمب بالفعل بتوجيه ضربة قوية لنظام التحالفات الذي يشكل الأساس الذي تستند إليه قوة الولايات المتحدة ونفوذها في العالم.
المشكلة ليست فقط أن ترمب عمل على تسييس الاستخبارات ــ وهو أمر سيئ في حد ذاته. بل إنه تسبب أيضا في تقويض فعالية أجهزة الاستخبارات الأميركية ونطاقها العالمي. ومثل هجماته الصبيانية على الحلفاء، يرسل اختيار عناصر هزلية لمواقع استخباراتية قيادية إشارة لا لبس فيها للعالم مفادها أن الولايات المتحدة لم يعد من الممكن اعتبارها محاورا جديرا بالثقة يمكن التعويل عليه.
الواقع أن العديد من الأسرار الأكثر قيمة تحت تصرف مسؤولي الاستخبارات الأميركية تأتي من علاقات طويلة الأمد مع نظرائهم في الخارج. لنتأمل هنا شراكة الكومنولث بين الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا. تشكلت هذه الشراكة أثناء الحرب العالمية الثانية ثم ترسخت خلال الحرب الباردة، وهي العامل الحاسم في “تحالف الأعين الخمس” الذي أصبح العمود الفقري لاستخبارات الاتصالات والإشارات في مختلف أنحاء العالم. ولن تكون هذه هي الحال في غياب قيادة استخباراتية سليمة ومقتدرة على نحو ثابت في جميع البلدان المشاركة.

  • كينت هارينجتون كبير المحللين في وكالة الاستخبارات المركزية سابقا، وقد عمل في وظيفة ضابط استخبارات وطنية لشرق آسيا، كما شغل منصب رئيس محطة في آسيا ومنصب مدير الشؤون العامة في وكالة الاستخبارات المركزية.

على نحو مماثل، من خلال التعاون على مدار عشرات السنين، أقامت الاستخبارات الأميركية شراكات جديدة مع أعداء سابقين، وخاصة ألمانيا واليابان، وأنشأت شبكة عالمية من العلاقات الأساسية من كوريا الجنوبية وغيرها من الحلفاء في جنوب شرق آسيا إلى الشرق الأوسط وما بعده.
ومع ذلك، يُظهِر لنا التاريخ أيضا أن مثل هذه العلاقات بالغة الحساسية، وهي بالتالي عُرضة للارتباكات السياسية بدرجة كبيرة. ذات يوم، قال ساخرا اللورد بالمرستون، الذي شغل مرتين منصب رئيس وزراء بريطانيا في أوج مجدها الإمبراطوري: «نحن لا نحتفظ بحلفاء أبديين، وليس لنا عداوات دائمة. فمصالحنا هي الأبدية والدائمة، ومن واجبنا أن نرعى هذه المصالح». بقدر ما تصح ملاحظة بالمرستون في حالة الدول، فإنها أكثر صدقا عندما يتعلق الأمر بالجواسيس.
بعد ما يقرب من ثلاث سنوات من الشتائم غير المبررة والاستفزازات، تسبب ترمب، وفقا لمركز بيو للأبحاث، في تقويض مكانة أميركا في كل أجزاء العالم تقريبا. ولم تخسر الولايات المتحدة ثقة واحترام رجل الشارع العادي فحسب، بل وأيضا ثقة واحترام مسؤولي الاستخبارات الأجانب. الواقع أنه من السذاجة التامة أن نتصور أن هجمات ترمب على منظمة حلف شمال الأطلسي، ووصف معاهدة الدفاع المشترك بين الولايات المتحدة واليابان بأنها «غير عادلة»، ممارسات لم تؤثر على تصورات الآخرين.
من الواضح أن القضية ليست أن الغضب الرسمي إزاء الولايات المتحدة يجري التعبير عنه من خلال قنوات دبلوماسية. بل إن التداعيات المترتبة على سلوكيات ترمب الهزلية تؤثر بلا أدنى شك على المستوى التشغيلي. فتقليديا، كان مسؤولو الاستخبارات الأميركية والحلفاء يتبادلون تقييماتهم والحقائق الكامنة خلفها بين بعضهم بعضا. ومع ذلك، فعندما يتعلق الأمر بنوايا كوريا الشمالية النووية وتدخل روسيا في الانتخابات الأميركية، رفض ترمب صراحة النتائج التي توصلت إليها أجهزته. وفي مناسبات أخرى، أفشى معلومات سرية للروس. ما الذي قد يتبادر إلى أذهان الجواسيس في لندن، وبرلين، وسيول، وتل أبيب إذا؟
لا يخلو الأمر أيضا من أوجه تشابه واضحة ومزعجة بين الحال الآن وأوائل ثمانينيات القرن العشرين، عندما كانت العلاقات عبر الأطلسي شديدة التوتر. فبسبب الثورة الإيرانية والغزو السوفييتي لأفغانستان في عام 1979، ثم الأزمة البولندية في الفترة 1980-1981، كان القادة الأوروبيون خاضعين لضغوط متزايدة دفعتهم إلى النأي بأنفسهم عن إدارة الرئيس الأميركي رونالد ريجان المنصبة حديثا والأكثر عدائية. تحمل الولايات المتحدة وأوروبا وجهات نظر مختلفة بشكل ملحوظ حول نوايا الكرملين، والحد من الأسلحة، ومخاطر الصراع الناشئ في أوروبا الشرقية. لكن العلاقات الاستخباراتية العميقة والقديمة لعبت دورا هائلا في الحفاظ على وحدة حلف شمال الأطلسي (الناتو).
يتبقى لنا أن نرى ما إذا كانت أجهزة الاستخبارات قادرة على القيام بنفس الأمر اليوم. إن مجرد تفكير ترمب في اختيار مثل هذا الأبله الساذج غير المؤهل إلى حد مذهل لقيادة مؤسسة الاستخبارات الأميركية بالكامل لا يبشر بأي خير. فالعواقب التي يخلفها مثل هذا السلوك على التعاون الاستخباراتي ونفوذ الولايات المتحدة في الخارج واضحة. فمثل الترشيحات الفاشلة للموالين لترمب من أمثال ستيفن مور وهيرمان كين لرئاسة مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، ألحق ترشيح راتكليف الفاشل المزيد من الضرر بمصداقية الولايات المتحدة في أعين حلفائها.
لقد أظهر ترمب مرة أخرى أنه عازم على تقديم مصالحه السياسية في الأهمية على مصالح الأمن الوطني وسير العمل اللائق بمؤسسة استخباراتية مستقلة. مع رحيل «المعاطف»، رحل «بالغ آخر في الغرفة». ويتعين على قادة الاستخبارات المتبقين أن يوضحوا ما أصبح على المحك الآن في اختيار خليفته.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2019.
www.project-syndicate.org

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة