مناقشة هادئة مع ياسر جاسم قاسم وباسل محمد عبد الكريم

القرامطة والعدالة الاجتماعية

شكيب كاظم

في مقدمة كتابه (القرامطة والعدالة الاجتماعية) يتساءل الباحث ياسر جاسم قاسم، هل استطاعت الحركة القرمطية، الحفاظ على وضوح برنامجها الفكري، سواء في الدعوة أو التطبيق؟ لأن أغلب المؤرخين، كانوا يتناولون معارك الحركة، بمعزل عن الربط بين ما كانت تنادي به الحركة، وبين ما وقع لها في مواجهاتها الخارجية، أو في صلب تطبيقاتها الداخلية. تنظر ص١٤.
أرى أن غالب الحركات المتمردة، أو الثورية، أو ما شئت أن تطلق عليها من نعوت، قد فشلت في الربط بين الفكر والتطبيق، لسبب بسيط ومهم في الآن نفسه، أنها تأتي مدججة بكره الآخر، فضلاً عن قرارات لا تحكمها ضوابط وأسس، بل يأتي القرار القاسي والمؤثر، نتيجة ردة هل نذكر شواهد من الزمن القريب أو البعيد، والثورة الفرنسية التي اندلعت ضد سلطة لويس السادس عشر في ١٤تموز/يوليو ١٧٨٩شاهدعلى ما أقول؟
تحولت الثورة إلى عراك بين القادة، وانتهت بقصل رقبة روبسبير بعد أن قصل هذا ما لا يحصى من رقاب. لن استعين بالتاريخ فقط بل ساحيل القارئ إلى الأدب، الى روايتي (قصة مدينتين) لجارلس ديكنز، و(الآلهة عطاش) لأناتول فرانس.
هل آخذ انموذجا من القرن العشرين؟ الثورة الثقافية التي أطلقها الرئيس الصيني ماو تسي تونك (١٨٩٣-١٩٧٦) وساعده الأيمن لين بياو؛ وزير دفاعه وقائد الجيش، بعد أن اتهما الزعيم التاريخي ليو تشاو تشي بمعاداة الثورة! وغيره من القادة، هذا الساعد الأيمن هرب بجلده، لعله رأى هول ما فعل، أو حدس أن السكين الثورية! قد اقتربت من رقبته، فلاذ بالفرار، وسقطت طائرته ولعلها أسقطت فوق أراضي جمهورية منشوريا سنة ١٩٧١، لأنه إتهم بمحاولة اغتيال ماو! والتهم في دول الراديكاليات تطلق جزافا.
هل اسرد وقائع ما حدث في اليمن الجنوبي، والصراع الذي نشب بعيْد نيل الاستقلال، والانسحاب البريطاني من عدن خريف سنة ١٩٦٧، وقيادة قحطان ( محمد) الشعبي للدولة الوليدة؟ ومن ثم أقاله اليسار الطفولي التروتسكي سنة ١٩٦٩، بقيادة سالم ربيع علي، فضلاً عن رئيس وزرائه فيصل عبد اللطيف الشعبي، مؤسس فرع اليمن لحركة القوميين العرب في منتصف الخمسينات، وقتل فيصل الشعبي في السجن

هل يجوز إسباغ مفاهيم الحاضر على الماضي؟
لقد عانت الكثير من كتاباتنا التاريخية والفكرية، من محاولة اسباغ نعوت أيامنا الحاضرة على الحركات الفكرية أو السياسية، أو حتى على شخوص بعينها، فها هو الباحث المصري أحمد عباس صالح، في كتابه (اليمين واليسار في الإسلام) يلبس شخوص الزمن الإسلامي الأول لبوس اليمين لهذا، واليسار لذاك، وارى أن هذه الأوصاف قفز على حقائق الأشياء، ومحاولة لي النصوص والحوادث لتأتي متوازية ومتقاربة من أفكار حركات سياسية معاصرة، هل أذكر الباحث هادي العلوي؟ أو الدكتور حسين قاسم العزيز في دراسته (حركة بابك الخرمي. أو ثورة الشعب الأذربيجاني ضد الخلافة العباسية)!! أو الباحث الرصين الدكتور عبد اللطيف الراوي في بحثه لنيل الماجستير الموسوم ( المجتمع العراقي في القرن الرابع للهجرة) ولقد رأيت الباحث ياسر جاسم قاسم، الذي أتابع كتاباته في الصحف والمجلات، وارى فيه مشروع باحث جاد ومفكر، ستزيده القراءة الجادة والعلمية، تألقا وذيوعاً، يناصره في ذلك الباحث باسل محمد عبد الكريم، الذي راجع الكتاب وقدم له؛ رأيتهما يتواءمان مع ما ذكرت من بحوث، وما لم أذكر، فيحاولان صب هذه الصفات والأفكار الحديثة على الحركة القرمطية، التي انطلقت أواخر القرن الثالث الهجري، وخاضت صراعا طويلا ضد الخلافة العباسية، وهددت أبواب العاصمة بغداد مرارا، إلا إنها انكفأت لتقيم دولتها في جزيرة نائية هي البحرين، والتي يصر الباحث ياسر على نعتها بـ(جمهورية البحرين القرمطية) وإنها الجمهورية الإشتراكية الجنينية، ولا يتورع عن الربط بينها وبين كومونة باريس سنة ١٨٧١،لينتهي إلى حقيقة أن الثورة تأكل ابناءها وهو الذي أشرت إليه في صدر حديثي هذا.
وإذ ربط الباحث ياسر بين الحركة القرمطية، والكومونة الباريسية، فان مقدم الكتاب الباحث باسل، قد زاد فواشجها مع ثورة العبيد بقيادة سبارتاكوس، مرورا بثورة البلاشفة سنة ١٩١٧، وحتى الحركة التي قادها كارل ليبتنخت وروزا لوكسمبورك وصولا إلى النموذج الجيفاري!

الإنسان حين ينفلت من عقاله
أرى أن هذه الحركة الباطنية المغالية، وقد شهد العهد العباسي، بعد اتصاله بالدول المجاورة، وما تركه من آثار على العقل والفكر، الكثير من هذه الحركات، التي كانت تنحو منحا الغلو، وهوما أطلق عليه الدارسون صفة (الفرق الغالية، أو المغالية)، شأنها شأن الحركات المتمردة أو الثورية، قد عانت مظاهر العسف والظلم، حتى إذا تمكنت من الأمر، أوقعت الظلم على الآخر، هل أذكر الدولة الصهيونية وما أوقعته من ظلم على الفلسطينيين؟
فإذ يؤكد الباحث ياسر جاسم قاسم إن الثورة القرمطية بقيت مجرد شعارات، لأنهم لم يستطيعوا ترسيخ مفهوم العدالة الاجتماعية التي دعوا إليها بسبب انشغالهم بالحروب ضد الدولة العباسية، فضلا عن أبناء جلدتهم، وانشغال أنصارهم البدو بالغزو والإغارة والنهب والسلب، الذين يصفهم بالفاقدين لمعاني المدنية، لذلك أوغلوا في سفك الدماء، وهؤلاء هم قرامطة أل زكرويه بن مهرويه، وكانوا يقطعون حتى طرق الحجيج، في حين ينزه جماعة ( حمدان بن الاشعث)؛المعروف باسم حمدان قرمط من مثل هذه الموبقات، أما لماذا؟ فيفسر لنا الأستاذ ياسر الأمر بأن أغلبهم من سكنة المدن والقرى من فلاحين وعمال.وعبيد!! تنظر ص٥٠ص٥١
إذن هذا هو الإنسان، حين ينفلت من عقاله، يأتي من الموبقات والجرائم ما لا يخطر على بال، اما أن نأتي مدججين بآراء عفا عليها الزمن، وجعلها وراءه ظهريا، فنمدح طبقة ونراها خالصة النية وكأنهم خلقوا ملائكة، فهذا مما لا يأتلف مع حقائق الحياة، فالباحث ياسر يؤكد طبقية الثورة، وان المسهمين الأساسيين فيها هم العمال والفلاحون، لا بل يؤكد الانحدار الطبقي العمالي لأحد كبار قادتها وهو (أبو سعيد الجنابي) كان عاملاً يشتغل بترقيع أكياس الطحين، كما يثبت انحدار قائدها الثاني ( حمدان قرمط) الفلاحي، واصفا إياه بالفلاح البسيط، وان هذا الانحدار سيكون مدعاة لتعاطف الباحث، أو زيادة تعاطفه معها! تنظر ص٦١
وإني لأعجب من تنزيه طبقة أو فئة، لا لسبب سوى أنهم كادحون! إذن كيف نفسر أخلاقيات الأرستقراطي ( ليو تولستوي) الذي وزع أراضيه الشاسعة بين الفلاحين العاملين معه، مما جلب عليه حنق أسرته، ولاسيما زوجته، فتركته يموت في محطة قطار أوى إليها في ليلة شاتية باردة؟!
إن الذي أريد تأكيده ضرورة أن لا نغفل الفروقات الفردية لدى الناس.
وإذ يؤكد الباحث ياسر، نقلاً عن ناصر خسرو في كتابه (سفر نامة) إن كبيرهم (الحسن بن بهرام الجنابي) ويكنى بأبي سعيد قد أعفاهم من الصلاة والصوم، لا بل دعاهم إليه؛ إلى الانتساب إليه، فكانوا يوصفون بـ (أبي سعيديين) ولا يطرف له جفن، حينما يصفهم بأنهم يقرون بمحمد المصطفى وبرسالته! كما أن ليس في مدينتهم (هجر) التي تغيرت إلى الأحسا أو الأحساء مسجد تقام فيه الصلاة، ومع هذا يصفهم الباحث بأنهم مسلمون! تنظر ص٨٨ ص٨٩
وإذ يؤكد نزوعهم الاشتراكي، وكنت أخشى أن يصف نزوعهم بالماركسي! لا بل يصفهم العفيف الأخضر بالشيوعية حتى أن المفكر الإيطالي بندلي جوزي يصفهم ( شيوعيو الإسلام)! فضلا عن الشورى والانتخاب، مع كل هذه الآراء والأفكار، فانه ينقل لنا رأي كبيرهم (أبو سعيد) الذي أوصى بأن يرعى الملك خمسة من أبنائه ويحافظون عليه، يحكمون الناس بالعدل والقسطاس و(لا) يختلفون فيما بينهم حتى يعود. تنظر ص ٨٨.

قالوا بالشورى وعملوا بالتوريث
إذن أين الشورى وأين الانتخاب، وقد حول أبو سعيد الحكم إلى وراثة؟ ثم كيف تتفق الاشتراكية مع استخدام العبيد؟ إذ يدون الباحث ياسر نقلا عن ناصر خسرو رواية: وكان لهم في ذلك الوقت ثلاثون ألف عبد زنجي وحبشي يشتغلون في الزراعة وفلاحة البساتين» تراجع ص٨٩
ولأن الباحث يحاول تنزيه هذه الفئة– وأنا لست بطاعن عليها– بل أنا باحث عن حقائق التاريخ من غير غلو واعتسىاف، وانظر إليها بحيادية البحث العلمي، فإنه يبتكر المسوغات لكل حادث أو تصرف يختلف مع مسطرته، فيسارع إلى تأكيد أن استخدامهم العبيد، حصل في أواخر دولتهم لأن ناصر خسرو، زارهم في وقت متأخر جداً، وإلا فإن أتباع القرامطة ولا سيما حمدان من العبيد والأحرار، كما بينا في هذا الكتاب. تنظر الصفحة ذاتها.
وأقول: إننا لا نتحدث عن الاتباع بل عن الأجراء، المستغلين وما اشبههم بزنج البصرة وعملهم في جمع الملح من السباخ.
والباحث ياسر إذ يحاول إيجاد المسوغات لاستخدام العبيد، فانه لا يوفر فرصة للدفاع عن القرامطة في قضية شائنة أخرى، فاذ يحدثنا عن المتطوعين في الحركة القرمطية، وهم: المثاليون، والأبطال الشجعان، والعلماء، وكذلك (المغامرون وقساة القلوب) وإذ يقف إزاءهم فإنه لا يلبث أن يجد المسوغ الجاهز قائلا:» يبدو أن الحركة كانت تستخدم هذا الصنف من الناس لزرع الرعب بين من يعاديها» تراجع ص٩٦
ولماذا ندافع عن فئة ترعب الناس، أليس الواجب خدمة الناس؟
كما أنهم كانوا يجندون الأطفال للقتال، فهذا هو كبيرهم أبو سعيد الجنابي، نقلاً عن المقريزي في كتابه (اتعاظ الحنفا بذكر الأئمة الفاطميين الخلفا) كان يأخذ الصبيان؛ أي يجندهم، إلا أن يكونوا دون الأربع سنين، وكان يعلمهم ركوب الخيل والطعان.
وإذ يؤكد الباحث ياسر، إن المرأة أدت دورا بارزا في الحياة الاجتماعية، فيراها منذ نشأة الدعوة القرمطية في المعارك، ويدون لنا نقلا عن المؤرخ الطبري في حوادث العام ٢٩٤مايلي :»» وكان نساء القرامطة يطفن مع صبيانهن في القتلى والجرحى، يعرضن عليهم الماء، فمن كلمهن أجهزن عليه.»» تراجع ص٩٩
فاية نسوة هؤلاء وأية قسوة هذه؟
وإذ يهاجم الباحث ياسر جاسم قاسم، سيطرة الدولة العباسية على الأراضي الزراعية، ويؤيد دعوة القرامطة لمشاعية الأرض، فإنه يناقض نفسه في دفاعه عن سيطرة الدولة الاشتراكية على الأراضي الزراعية، التي قال بها كارل ماركس في رسالته إلى انجلز في ٦-٦-١٨٥٣، ونص فيها على»» إن غياب ملكية الأرض هو مفتاح الشرق كله»» ناقلاً هامش لنين وملاحظاته على هذه المراسلات مؤكداً أن»» مفتاح التقاليد الشرقية هو في غياب الملكية الخاصة للأرض، فالأرض جميعها ملك الدولة»» ص ١٠٤
إن التسطير على الورق لمفكرين بطرين ثريين لم تعركهما الحياة بقسوتها، القول يخالف وقائع الحياة. لان إهمال الدافع الشخصي المحرك للحياة برمتها، يترك آثارا مدمرة على مسيرة الحياة، والأدلة فشل التعاونيات والمزارع الجماعية، فضلاً عن قانون الإصلاح الزراعي في العراق لسنة ١٩٥٨ وآثاره المدمرة التي نحياها الآن ومنذ عقود.
لننظر إلى كورية الشمالية ونقارنها بالجنوبية، ولنرجع إلى صين ماو وليو شاو شي وشو إن لاي ولين بياو ونقارنها بصين بنك هسياو بنك وغيره الذين فهموا الحياة وأطلقوا الدافع الذاتي، لتتبوأ الصين المركز الثاني في اقتصاد العالم.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة