اللقطات السوداء في السينما

ترجمة صلاح سرميني

في عام 2004 صدر كتابٌ جماعيٌّ بعنوان «السينما، والفنون التشكيلية»، جمع الدراسات التي نُوقشت خلال ندوة موسّعة انعقدت عام 2011 في المركز الثقافي الجامعي لمدينة «سوريسي لاسال»/فرنسا، وعالجت البُعد التشكيليّ للصورة، والجماليّ السينمائي بشكلٍ عام من منظورٍ متعدد التخصصات، دون أيّ تفرّدٍ أسلوبيّ، أو زمنيّ.
في الواقع، يمكن النظر إلى مسألة تشكيلية الصورة السينمائية من قبل منظري السينما، ونقاد الفن، والفلاسفة، وعلماء الاجتماع، ومؤرخي الفن، بقدر ما هو مرجح، وبشكلٍ خاصّ، دمج علاقات السينما مع الرسم، وكذلك مع الأشكال الأخرى للتعبير المرئيّ المُعاصر (الفيديو، التصوير الفوتوغرافي، التلفزيون، الإعلان).
الصورة السوداء/الشاشة السوداء/اللقطات السوداء تماماً في الأفلام تسكن السينما منذ بداياتها، حيث يحتلّ اللون الأسود مكانةً خاصة في المنظومة السينمائية:
ظلام صالة العرض، اللون الأسود للشريط السينمائي؟
كيان، ومشكلة تشكيلية، مسألة تشكيلية، وشكلية؟
في السينما يتنوّع استخدام، وتأثيرات اللقطة السوداء، كما يتضح من بعض الأمثلة التي أثارتها مداخلة الباحثة «لور بيرغالا» في تلك الندوة تحت عنوان « الصورة السوداء».
(اختار المخرج مونتاجاً بإيقاعٍ بطيء نسبياَ يخدم السرد من ناحيةٍ، والتشويق من ناحيةٍ أخرى، واحدة من السمات الرئيسية ـ التي نجدها في فيلم Incassable ، 2001ـ لأسلوب «م. نايت شيامالان» هي استخدام التلاشي التدريجي الطويل إلى الأسود، حيث يتمّ فصل كلّ مشهدٍ عن الآخر بواسطة لقطة سوداء تستغرق عدة ثواني.
وفي 20 يوليو من عام 2004، كتب المُحلل النفسي «أوليفييه دوفيل» عن فيلم «فهرنهايت 9/11»:
(دعونا نعود إلى البناء الشكليّ لهذا الفيلم، إنه يرتكز على قصف بقايا صور، وخطاباتٍ، وإطارات صور متفجرة، وتدخلاتٍ صوتية دائمة.
ويقطع هذا التدفق استراحتيّن مفصليتيّن بين البصري، والصوتي، لقطة سوداء بدون صور، تماماً كما في أفلام «غي ديبور»، مصحوبة بضجةٍ هائلة، ثمّ أزيز مخيف لطائراتٍ تضرب البرجين التوأمين.
هنا، يُعاد كلّ متفرج إلى عجزه عن التصوّر، والتخيل، إلى مخبئه في شبكاتٍ من التجسيدات – خاصةً، وأنه في تلك اللحظة لم تنسب أيّ منظمة الهجوم لنفسها ـ.
في عام 2018، ومن أجل الحصول على شهادة الدكتوراة من إحدى الجامعات الفرنسية، ناقش الباحث «لي ـ شين كو» أطروحةً بعنوان (اللون الأسود بمثابة اختراع للسينما: مادةٌ، شكلٌ، منظومة)، وبفضل إحدى المنصات المُتخصصة بنشر الأبحاث الجامعية، يمكن التعرّف على محتواها:
(على النقيض من الضوء، ومع ذلك، لا ينفصل اللون الأسود عن السينما، ما هو اللون الأسود في السينما؟ شكلٌ للظلّ، أو العتمة في الصورة، وهو موجود أيضاً على هذا النحو، لونٌ أسود بدون تجسيد، وبحقيقته المادية المُتفردّة.
هذا اللون الأسود هو قبل كلّ شيءٍ شرطٌ تقنيّ، نُخبئه، ولكنه يلعب دوراً حاسماً في إنتاج الأوهام البصرية، وخلق الخيال، كما أنه موجود طوال سياقات صُنع الصورة السينمائية.
يلعب اللون الأسود مع الضوء، ويشترط الرؤية، واللا رؤية، وبهذا المعنى، يكتشف السينما، ويقترح طريقةً أخرى لفهمها، وبالتالي، طريقة عملها.
تعالج أطروحة الباحث اولاً الجانب المادي لصورة شريط السيليلويد: التعتيم الكيميائي الضوئي، والأفكار التي يقترحها كسياق تشكيل، وانحلال الصورة، ومن ثمّ يتطرق من خلال اللون الأسود الشكلي، أداة بلاغية، وميكانيكية، إلى التأثيرات الناتجة عنه، عندما يتدخل كشكلٍ في الصورة، وللصورة، وبين الصور، وأخيراً، كمنظومةٍ غزت الشاشة، وفضاء العرض، سوف يكشف اللون الأسود عن دوره في منظومة العرض المرئيّ: بناء ممرّ إلى الوهم، والكشف.
يتوسّع كلّ فصلٍ من فصول الأطروحة في مسيرة، هي بالآن ذاته، تاريخية، تقنية، وجمالية، وسوف نلاحظ، وبشكلٍ خاصّ في المحاولات الفنية، والتجريبية، بأن الاهتمام باللون الأسود يسمح بالكشف عن خصائص الوسيط السينمائي، أو حتى إعادة اكتشاف السينما، وتُعتبر هذه الأطروحة عن اللون الأسود بمثابة بحثٍ عن طبيعة السينما، طبيعة تحاول صناعة الأفلام محوها، حيث يجعلنا اللون الأسود نرى، ولكن بشكلٍ مختلف).
اللون الأسود في السينما هو بمثابة علامة ترقيم، وممر من مكانٍ إلى آخر، وفي معظم الأحيان، من وقت إلى آخر.
إن اللون الأسود هو عبارة عن ممر يسبقه غالباً تعتيم نحو السواد الكامل، أيّ اختفاء صورة في الظلام، حيث يمكن أن يتبعها انفتاح من الأسود، أيّ ولادة صورة في الظلام.
هذا بالضبط ما يحدث بانتظام بين كلّ لقطة مستمرة من فيلم «ورود شنغهاي» للمخرج الصيني «شياو شين هو» حيث تمّ تصميم اللقطة كجزيرة.
كلما زاد طول الأسود، كلما زاد القطع الخاطف، في بعض الأحيان، يكتسب اللون الأسود حالة الصورة نفسها، يتمّ تشغيلها كمفردة منفصلة: العرض غير مرئي، والصوت يصبح صورة.

اللون والاستعارة

يلعب السواد إذاً دوراً سردياً، ورمزياً، في أحد مشاهد الجزء الثاني من فيلم Kill Bill للمخرج «كونتان تارانتينو» نشاهد «أوما ترومان» مدفونةً حيةُ في تابوت، يحدث احتجازها، وإطلاق سراحها خلال مشهد يتكوّن من شاشةٍ سوداء تاركاً الصوت بمفرده مع المجارف تغطي التابوت، وحشرجة أنفاسها متوسلة، قريبة من النزاع الأخير، في هذا المشهد، لا يشاهد المتفرج إلاّ السواد في تلك اللحظات، وهو بالآن ذاته واقعيّ ـ المتفرج في نفس الحالة التي تعيشها الشخصية ـ، ومجازيّ ـ إنه تنظيمٌ مرتبٌ للمرور نحو الموت، يجب إذاً على «أوما ترومان» أن تنجح في إضاءة بطارية صغيرة، صالة العرض، وتخرج من التراب، إنها تمثل من جديد بتسارع، وفي زمن حقيقي تقريباً فترة الغياب الطويلة عن الوعيّ في بداية الجزء الأول من الفيلم، عندما تخرج من التراب تمّ تصويرها كميتة حية : من الخارج تنبثق يدها من الأرض على طريقة أفلام الرعب.

اللون والتجريد

كما يمكن اعتبار استخدام الشاشة السوداء بمثابة غزلٍ مع الدلالات، لأنه إذا لم نعتبر الأسود لوناً، فإنه لا يقلّ تصويرية.
في فيلم (Five) لـ»عباس كياروستامي»، القصيدة الخامسة هي انعكاس القمر في بركة ماء، عندما تعبر الغيوم أمام القمر، لا يوجد أيّ شيء: الحقل فارغ، أسود، في بعض الأحيان يعود القمر بعد فترة طويلة، فقط يكشف الصوت عن الحدث، أصوات حيوانات غير محددة، ومتغيرة، حفيف الريح، أو العاصفة، المستمرة، تشرخ لحظات الظلمة بخيط برق مفاجئ.
من خلال اظهار أقلّ قدر ممكن، يهرب «كياروستامي» من الواقعية، لأن فضاء العرض واسع إلى اقصاه، ويغطي كلّ الإمكانيات.
مسبقاً في فيلمه (ABC Africa)، وخلال عاصفة، ينقطع التيار الكهربائي، ويترك 10 دقائق من الظلام تلامس حدود التجريد.

اللقطة السوداء، وصمت الصورة

وعندما تهرب اللقطة السوداء من المعنى، فلأنها تخلق فضائها الخاص، فضاءً موسيقياً، في فيلم «جان لوك جودار» (Éloge de l›amour/احتفاء الحبّ) يوظف اللقطات السوداء كما الصمت، في اللحظة التي تسكت الصورة، بينما يستمر الصوت، وهكذا أيضاً تستخدم «مارغريت دوراس» اللقطات السوداء في أفلامها، كما في (L›Homme Atlantique/الرجل الأطلنطي) بشكلٍ خاصّ، لا يبقى إلاّ الصوت في سواد الشاشة، الصوت الذي يوجه الممثل العشيق، ما يخلق لقطة بحدّ ذاتها، فضاء عرض حيث يصبح الفيلم، والصالة كياناً واحداً، «يان أندريا» يمشي مرة واحدة، ومرتين، ولا يمكن إظهار التجربة الثانية بنفس الطريقة، كما لا يمكن للحبّ أن يُعاش من جديد.
اللقطة السوداء هي، بالآن ذاته، مجال الرؤية، وعكسه، يان أندريا/دوراس، إنها هنا بالنسبة للفيلم كما في الجزء الثاني من Kill Bill (أوما ترومان من طرف، وما تراه من طرف آخر)، وخارج الفيلم (ما هو على الشاشة، والصالة الغارقة في ظلام دامس).
والسواد عندما لا يكون قطعاً، وخاطفاً، هو عنف يتعرض له التجسيد الذي يغيب لزمن بعض الصور، أو فيلماً بكامله، إنه الاستفزاز الذي يقدمه «مونتييرو» عندما عكس اللقطات: الفيلم بكامله في السواد، بينما اللحظات السوداء الخاطفة في الأفلام التقليدية مجسدة عن طريق مناظر طبيعية، حكاية Blanche-neige لـ»جواو سيزار مونتييرو» لم يعد بالإمكان سردها، لم يتبقَ منها غير الحوارات الخاصة المنزوعة من الممثلين.
في مواجهة مزايدات الصور، من الأفضل على السينمائيين التفكير قليلاً باللقطات السوداء، وفضاءاتها المحدودة التي ترتب موت السينما نفسها، موتٌ مؤقت، وذلك لأنه حدود انبعاث السينما من جديد.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة