كاظم مرشد السلوم
أكيرا كيراساوا هو المخرج الياباني الاكثر شهرة ليس على مستوى السينما اليابانية فحسب بل على مستوى السينما العالمية كذلك ، كان له تأثيره الواضح على مسيرة العديد من المخرجين اليابانيين ،فمنذ اخراجه لاول افلامه « سانشيرو سوغانا « اتخذت مسيرته مسارا تصاعديا لم يتوقف إلا في العام 1998 عام وفاته وهو المولود في العام 1910 ، لم تكن حياة كيراساوا حياة اعتيادية خصوصا وانه عاش وكان شاهدا على حربين عالميتين ، اثرت وبشكل كبير على واقع بلاده اليابان وعلى ثقافة شعبه ، وتحول هذه البلاد من قوة عسكرية كبيرة الى قوة اقتصادية هائلة ، وربما كانت هذه فضيلة الحرب الكبيرة على اليابان بلدا وشعبا .
هذا التأثير كان واضحا في اعمال المخرج كيراساو ، وهو المنحدر من أحدى عائلات الساموراي ، التي تستمد تقاليدها من عمق ديني هائل ، وكان فيلمه الشهير الساموراي السبعة دليلا على ذلك وكذلك بقية افلامه ، لكنه استطاع وبذكاء كبير من أن يحاكي السينما العالمية من خلال اتباع طرق الاخراج الغربية الامر الذي اسهم الى حد ما في نجاح وتقبل افلامه في الغرب ، وتعاطفهم معها .
استمر في نجاحاته على الرغم من أن نقاد السينما في اليابان كان لديهم شكوكهم بسبب طريقة عمله غير التقليدية إلى عام 1971 حين أصابه اكتئاب بعد فشل فيلمه ” الطائر الأحمر” و لم يجد تمويلاً لأول فيلم له بالألوان فنجا بصعوبة من محاولة انتحار، ثم عاد إلى الإخراج بفيلم من إنتاج مشترك ياباني روسي “ديرسو أوزولا” في 1975 الذي حصد أوسكار أفضل فيلم أجنبي في عام 1976، و استمر بنجاحاته الكبيرة حتى مماته في 1998 عن عمر يناهز الـ 88 بعد قضائه لما يقارب الـ 57 سنة في عالم الأفلام و التي أخرج من خلالها 30 فيلماً.
بعد التجربة والخبرة الكبيرة التي اكتسبها ، اخرج في العام 1990 واحدا من اهم افلامه « أحلام كيراساوا « وهو عبارة عن مجموعة افلام قصيرة ، هي احلامه السينمائية ، او هي ما حلم به ذات يوم ما واراد ان يحوله الى فيلم او يحكيه الى الناس من خلال سرد صوري وظف فيه فنطازيا خيالات الاحلام / متناولا مايشغل باله ، نتيجة الاشكالات التي تواجه العالم التي لم تنته بانتهاء الحرب العالمية الثانية ، او حتى انتهاء الحرب الباردة بين الدول الكبرى ، فالخطر مازال قائما ، مع التطور التكنولوجي الهائل خصوصا في مجال الصناعة النووية ، وبالتالي فان أحلام الانسان لا بد ان تتأثر بهذا الخطر ، فكيف اذا كانت احلام فنان ومخرج اسمه « اكيرا كيراساوا «
ثمانية احلام هي مايحويه الفيلم ، الحلم الاول بعنوان « الشمس تشرق من خلال السجب « يتحدث عن طفل لايأبه بتحذير امه فيخرج في يوم تقيم فيه بنات آوى عرسها ، فيتعرض الى الطرد من البيت بعد ان تسلمه امه سيفا ، وتطلب منه الذهاب الى بنات أوى والاعتذار منهم .
ربما اراد كيراساوا ان يتحدث عن التربية المنضبطة والقاسية الخاضعة للتربية والافكار والعقائد اليابانية المتأصلة في المجتمع ، وكيف يمكن ان تصنع من الطفل رجلا يواجه الازمات .
معالجة كيراساوا للحكاية كانت بدهشة بصرية أخاذة، كونه اراد ان يخفف من جزعنا على مصير الطفل فكانت صوره لحقول بأزهار جميلة وقوس قزح ربما لا نراه كثيرا في حياتنا ولكن يمكن ان نتخيله او نحلم به .
الحلم الثاني كان بعنوان «بستان الخوخ « وهو عبارة عن عرض صوري يقترب كثيرا من عروض الدمى اليابانية بملابسها التراثية ، والطفل الذي ربما يكون هو نفسه كيراساوا حاضرا يحاكي ارواح الأشجار، وحياة البراعم المتجسدة على شكل فتيات ورجال جميلين ،
التناول تم من خلال مايشبه العرض المسرحي على سفح تل اخضر، والطفل يقف امام العديد من الاشخاص الذين هم ارواح اشجار الخوخ يتوسلهم ان لايذبل بستان الخوخ الذي يحب فتتحقق له امنيته .
الحلم الثالث هو « العاصفة الثلجية « وهو حلم يتحدث عن متسلقي جبال يابانيين يتعرضون لعاصفة ثلجية شديدة لايستطيعون مقاومتها ، هنا ايضا تبرز شخصية القائد الساموراي البطل الذي يقاوم العاصفة لاخر رمق ثم يستسلم ، ليصحوا على حلم فتاة تخبره ان العاصفة انتهت وان الثلج بدأ بالذوبان ، ولكن متى ، هل كان ذلك بعد موتهم ، ام نهم وصلوا الى معسكرهم فعلا كما نادوا في اخر الفيلم
الحلم الرابع هو « النفق « تاثير الحرب الكونية واضحا في هذا الحلم والقائد الشجاع يجب ان لا يخرج من معركة خاسرة حيا حسب العقيدة الساموارية المتأصلة في جسد المجتمع الياباني ، فماذا اذا خرج كذلك ؟
منسحبا يصل القائد الى نفق مظلم ، يخرج من خلاله كلب بشع البس حزام من المتفجرات تتبعه كتيبة من الجيش هي كتيبة القائد التي ابيدت كلها في المعركة ، يؤدون التحية له ويعلنون انتهاءالمعركة من دون خسائر ، فهم الابطال وان ماتوا ، هنا يقول لهم كلمة مؤثرة ، انهم يسمونكم ابطالا ولكن في النهاية انتم موتى ، كنت اتمنى لو مت معكم ، أمرهم بالرجوع من حيث اتوا ،ثم يتركه كيراساوا مع الكلب في نهاية مفتوحة بين الموت والحياة التي يفصلها كلب بشع .
الحلم الخامس وربما الاهم من حيث الاخراج واستعمال عناصر اللغة السينمائية هو حلم « الغربان « حيث يبحث كيراساوا عن الرسام الشهير فان كوخ وهو الذي كان هاويا للرسم في بداياته ، ودخل كلية الفنون الجميلة قبل ان يتجه الى السينما ، يجد فان كوخ في احد حقول القمح ومازال الضماد يلف اذنه التي قطعها قبل ايام ، مارتن سكوسيزي وكوفاء لكيراساوا هو من مثل دور فان كوخ .
كوخ لايعيره اهتمامه ويتركه ليدخل باحثا عنه عبر العديد من لوحاته ، ليصل الى الحقل الشهير الذي رسمه فان كوخ وقد ملأته الغربان .
الحلم السادس هو الانفجار الاحمر لبراكين جبل فوجي « وهو تحذير من خطر بناء المفاعلات النووية ، حيث يتنبأ بانفجار متسلسل لستة مفاعلات نووية ، فيهرب السكان الى البحر ، ليلقوا بانفسهم كي يموتوا غرقا بدلا من الحريق ، خبير علمي يتحدث عن ضرر الغازات السامة التي تطلفها المفاعلات ويذكر اسماءها العلمية تأكيدا من كيراساوا على زيادة التحذير .
الحلم السابع هو حلم مكمل للحلم السادس حيث يتحدث عن نتائج ماوراء الكارثة التي يمكن ان تحل بالارض وشعوبها فنبتة الهندباء البرية تكون عشرات اضعاف حجمها والعقل والشكل الانساني لا يسلم من تأثير مدمر كذلك .
الحلم الاخير هو قرية الطواحين المائية ، يحاول كيراساوا العودة الى البدايات حيث الناس تعيش ببساطة كبيرة وليس ثمة ما يشغل بالها مكتفية من كل شيء من خلال ماتوفره الارض والماء ، حتى الموت يحتفلون به ، وليس ثمة مشكلة من حدوثه ، هو حلم بقرية او مدينة فاضلة وهو امر ربما لا يوجد حتى في القرى القصية من الارض.
كيراساوا صنع قرية غاية في الجمال ، مناظر طبيعية تثير الدهشة ، نتمنى جميعا ان نعيش فيها ولكنها في نهاية الامر حلم لا يتحقق في عالم يشهد صراعا وازمات ربما تحقق الاحلام الكارثية والمخيفة اكثر من الاحلام الرومانسية الجميلة
اخيرا قدم كيراساوا من خلال هذا الفيلم لوحات فنية ضمن دهشة بصرية هائلة ، تؤكد علو كعبه في الاخراج السينمائي ، لذلك كان بحق الممثل الكبير للسينما اليابانية .