آماندا روبلز، وجولي سافيللي
باريس – ترجمة صلاح سرميني
تُعد بدايات السينما، بحدّ ذاتها، تجريبية، كما تشهد على ذلك الفترة التي سبقت السينما، والبحوث التقنية للروّاد الأوائل (إيتيّين ـ جول ماري، الأخوين لوميّير، جورج ميليّيس، أو إميل كول)، وخلال العشرينيّات ظهر مصطلح «الطليعة» بهدف الإشارة إلى الأفلام التي أُنجزت في إطار حركة البيانات الفنية الكبرى التي استهدفت تغيير الفنّ، والمجتمع معاً (المُستقبلية، التكعيبية، التجريدية، الدادائية، السوريالية، والبنائية).
لم يكن أولئك الروّاد سينمائييّن فحسب، بل كانوا فنانين/رسامين، تشكيليين، مصورين، أو شعراء ـ يناضلون من أجل «سينما صافية» تتجاوز إملاءات السردّ الموروثة من الرواية، والمسرح.
وفي هذا الحراك، شاركت مبادرات متعددة الاختصاصات في أسسّ السينما التجريبية.
تلك الحركات الأولى للطليعة، والتي يُقال عنها «تاريخية»، تشكلت أساساً في أوروبا (إيطاليا، ألمانيا، فرنسا، وبريطانيا)، وكانت تسعى إلى تأكيد مواقع جمالية جديدة عن طريق تجريبٍ شكليٍّ يواجه السينما الصناعية المُهيمنة.
يقترح المؤرخون التميّيز بين ثلاثة تياراتٍ رئيسة:
ـ التعبيرية الفرنسية.
ـ الطليعيات التسجيلية.
ـ وطليعة «البحث» التي تشير إلى تجارب شكليّة أكثر راديكالية.
1916: بيان السينما المُستقبلية
المستقبلية، أسّسها الشاعر الإيطالي «فيليبّو تومّاسو مارينيتي»، وهي حركةٌ أدبيةٌ تمددت سريعاً إلى الفنون الأخرى.
قريبةٌ من التكعيبيّة، تحتفي المُستقبلية بجمال العالم الحديث، والآلات، والمدن.
في عام 1916 نشر «مارينيتي» بيان السينما المُستقبلية، وأعلن فيه، بأنّ هذه الطليعة السينمائية سوف تتموقع في ملتقى طرق فنونٍ مختلفة:
«سوف تكون أفلامنا … قصائد، خطاباتٍ، وأشعاراً سينمائية …، بحوثاً موسيقية سينمائية (تنافر، توافق، سيمفونيات إيماءاتٍ، أفعال، ألوان، خطوط، .. إلخ)».
في العام نفسه ، كتب «مارينيتي» سيناريو بعنوان (Vita futurista) أخرجه «أرنالدو جينا»، وقدم فيه مجموعةً من المُستقبليّين يُحدثون اضطراباً داخل حانةٍ بورجوازية في فلورنسا، وفي عام 1958 ضاعت نسخة الفيلم خلال محاولة ترميمها.
1919 : الطليعة التعبيرية
في عام 1917، أثمر اللقاء بين «جيرمين دولاك»، و»لويّ ديلوك» عن إمكانية إنجاز فيلم (La Fête Espagnole) ـ العيد الإسباني ـ (1919)، وبشكلٍ أوسع، نشأت أول حركة طليعية للسينما الفرنسية معروفة أيضاً تحت اسم التعبيرية (وهي تختلف عن التعبيرية الألمانية).
بعيداً عن جذرية حركاتٍ طليعية أخرى، اهتمّ السينمائيان بتحويل السينما الحكائية إلى مناطق أكثر تعبيريةً.
«مارسل لوهربييه» في فيلم (El Dorado) عام 1921، «رينيه كلير» في فيلم (Paris qui dort) ـ باريس التي تنام ـ عام 1923، وأيضاً «جان إبستاين»، بدأ هؤلاء باكتشاف الإمكانيات البصرية للفيلم عن طريق التجارب المختلفة في تأطير اللقطات، حركات الكاميرا، علاقات الظلّ، والضوء، التشوّهات الناتجة عن العدسات، عدم وضوح الصورة، وتطابق الصور فوق بعضها.
بدوره، دفع «آبل غانس» التجريب التقنيّ أبعد بكثير، متخيلاً لفيلم (Napoléon) عام 1927 توسيع المقاس التقليدي عن طريق التصوير بثلاث كاميرات، ومن ثمّ عرضَ الفيلم على ثلاث شاشات.
وبدورها، تخيّرت «جيرمين دولاك» الجذرية باقترابها أخيراً من الحركة السوريالية مع فيلم (La Coquille et le Clergyman) ـ القوقعة، ورجل الدين ـ عام 1927 الذي شارك «أنتونان أرتو» في كتابته.
1921: السينما التجريدية
ظهر التجريد في الرسم نحو عام 1910، وكما الحال في السينما الطليعية، كانت الفكرة ابتكارهم رسماً «صافياً»، متحرراً من تبعيته للتشخيص.
في العشرينيّات، عددٌ من رسامي التجريد أدخلوا إلى السينما أفكارهم حول تفكيك الأشكال، والحركة، والتلازم بين الإيقاع الموسيقيّ، والألوان، والأشكال.
«هانز ريختر»(1888-1976) رسامٌ ألمانيّ بتأثيراتٍ تعبيرية، وتكعيبية، أو «فايكينغ إيغيلنغ»(1880-1925)، رسامٌ سويديّ قريب من الحركة الدادائية، بدآ تجارب بالرسم على لفائف، ومن ثم تصويرها. (Rhythm 21) ـ إيقاع 21 ـ عام 1921 لـ»ريختر»، و( La Symphonie diagonale) ـ السيمفونية المائلة ـ عام 1925 لـ»إيغيلنغ» يشيران إلى بداية عدد من التجارب انتهت مع صعود النازية.
هرب «ريختر» إلى الولايات المتحدة، وهناك تعاون مع فنانين أوروبيين آخرين منفييّن مثله: «مان راي»، «ماكس أرنست»، «ألكسندر كالدير»، وأيضاً «فرناند ليجيه»، و»مارسيل دوشا»، حيث عدت أفلام مثل (Ballet Mécanique) ـ الباليه الميكانيكية ـ عام 1924، (Anémic Cinéma) عام 1926 من بين علامات الطليعة التاريخية، وأحدث فيلمهما المشترك (Dreams That Money Can Buy ) عام 1947 تأثيراً على السينمائيين الأوائل للأندر غرواند الأميركية.
1927 : سيمفونيات حضرية
نشأت طليعيةٌ تسجيليةٌ تتماشى مع السينما التجريدية، وهكذا، بعد أن أخرج «والتر روتمان» فيلمه (Opus I)، وكان بمنزلة باليه صافية من الأشكال الجيومترية، بدأ يهتم بتصوير لقطاتٍ واقعية، في عام 1927 أنجز (Berlin symphonie d›une grande ville) ـ برلين سيمفونية مدينة كبيرة ـ ومن خلال اشتغال مونتاجيّ بارع يرتكز على علاقات أشكال، وإيقاع، يُظهر 24 ساعة من نشاط مدينة.
عد الفيلم حصيلة موجة تجارب فيلمية حول موضوعاتٍ حضرية، تلك التي بدأت تظهر إلى النور مع فيلم (Manhatta) في عام 1921 لـ»بول ستراند»، و»شارلز شيلير»، أو فيلم (Rien que les heures) ـ لا شيء إلاّ الساعات ـ في عام 1926 لـ»ألبرتو كافالكانتي».
وبدوره، شارك فيلم (Jeux des reflets et de la vitesse) الذي تمّ إنجازه خلال الأعوام 1923-1925 لـ»هنري شوميت» في تلك البحوث التجريدية عن طريق تشظية الواقع.
لاحقاً، عرف الفيلم السيمفونيّ تنويعاتٍ مختلفة مع عددٍ من الأفلام القصيرة لـ»يوريس إيفانز»، وأيضاً أفلاماً مثل:
(Douro) عام 1931 لـ»إيمانويل دي أوليفييرا»، (À propos de Nice) ـ فيما يتعلق بمدينة نيس ـ عام 1930 لـ»جان فيغو»، أو حتى (L›Homme à la caméra) ـ رجل الكاميرا ـ عام 1929 لـ»دزيغا فيرتوف»، واسهمت هذه الأفلام باستكشاف المناظر الحضرية في اشتغالٍ تكوينيّ بصريّ، ومونتاج إيقاعيّ يقترب من الكتابة الموسيقية.
1929 : المونتاج السوفييتي
بين الأعوام 1920 و1930، وعلى خلفيةٍ ثورية، انطلقت السينما السوفييتية الشابة للبحث عن لغةٍ سينمائية جديدة تكون بمنزلة صدىً لمجتمعٍ جديد.
اهتمت هذه السينما بتتابع اللقطات، وارتكزت على مونتاجٍ يتماشى مع تجارب «ليف كوليشوف».
في عام 1929، نلاحظ من جهةٍ فيلم (La Ligne générale) ـ الخط العام ـ لـ»إيزنشتاين»، ومونتاج جذب الانتباه، ومن جهةٍ أخرى، فيلم (L›Homme à la caméra) ـ رجل الكاميرا ـ لـ»فيرتوف، ومونتاج الفواصل.
نجد أصول مونتاج جذب الانتباه في مسارح المنوّعات: وينطوي على لحظةٍ قوية، مستقلة بما يكفي كي تتخلص من الطبيعية، والتشابه مع عرضٍ مشهديّ، وذلك من أجل إنتاج ردّ فعل قويّ على المتفرج.
بينما يشير مونتاج الفواصل عند «دزيغا فيرتوف» إلى الحركة بين الصور، وانشاء علاقاتٍ جديدة في الزمان، والمكان كي تجعل المتفرج يشاهد العالم لأول مرة.
إذا كان هذان المفهومان من المونتاج المُتعدد الأصوات يختلفان في أماكن مختلفة، فإنهما عملياً يشاركان في الطليعة السوفييتيّة من خلال نزعتهما المشتركة ضدّ الوهم الدرامي، وما سوف تُسميه السينما التقليدية السائدة «شفافية/وضوح».
1929 : مؤتمر لازاراس
في نهاية السينما الصامتة، اجتمع البعض من السينمائيين، والمُنظرّين للتباحث في مستقبل السينما المُستقلة، حيث تعرّض نظام داعمي الفنّ الذي كان يسمح بإنتاج هذا النوع من الأعمال إلى الخطر بسبب الأزمة الاقتصادية عام 1929، ومع وصول الحوارات الصوتية، سرعان ما أصبحت السينما صناعة جديدة، استولى عليها التجار الذين لم يكن يهمّهم التجريب الفنيّ.
اجتمع هؤلاء في قصر إحدى السيدات من مناصري الفنّ في إطار «المؤتمر الدولي للسينما المستقلة»، ومع مضيفتهم السيدة « دو ماندرو» بحثوا في تخيّل إيجاد إمكانياتٍ مؤسّساتية، أو قانونية أخرى من أجل الاستمرار في إبداعهم.
كان من بين المشاركين: سيرغي أيزنشتاين، بيلا بالاش، ألبرتو كافالكانتي، هانز ريختر، والتر روتمان،…
أفضى المؤتمر إلى توصيات تأسيس شركةً تعاونية لتنظيم عروض السينما المستقلة، وشبكة نوادي سينما، ووكالة صحفية، وللأسف، لم تستمر تلك المشاريع، ولكنها شحذت أهمية هذه السينما خارج النظام الإنتاجيّ، والتوزيعيّ السائدين.
1930 : السوريالية
كان المشروع السوريالي يسعى إلى جعلنا نكتشف حقيقةً أخرى، واستعادة الاشتغال اللاواعي للتفكير انطلاقاً من تقنياتٍ مثل الكتابة الأوتوماتيكية، والاستيحاء من لعبة «الجثة الفاتنة»، والكولاج.
أثارت السينما إعجاباً شديداً عند السورياليين، وأصبحت بالنسبة للمخرج «لويس بونويل»، و»سلفادور دالي» آلة حقيقة للحلم، وفي عام 1929 أخرجا معاً فيلم (Un Chien andalou) ـ كلبٌ أندلسيّ ـ، ومن ثمّ (L›Âge d›or) ـ العصر الذهبي ـ في عام 1930، كان هذا الفيلم المُدلل بمنزلة البيان السوريالي الثاني.
سينمائيون عصاميون كما «مان ريه» ((L›Etoile de mer 1929 ـ نجمة البحر ـ، «جان كوكتو»
(Le Sang d›un poète 1930) ـ دم شاعر ـ، أو «بينليفيه» (La Pieuvre 1928)ـ الأخطبوط ـ كانوا يحومون أيضاً حول «أندريه بروتون» الذي ظلّ ينتقد تلك السينما الحلمية، ويعد بأن أنماط إنتاجها ليست سوريالية صارمة.
وعلى الرغم من العدد القليل للأفلام المُنتجة في كنفها، كان لتلك المجموعة من الأنقياء تأثيرها الكبير على القرن العشرين، وبشكلٍ خاصّ، تاريخ السينما التجريبية، كاشفة عن جانب اللاوعي، والمصادفة في الإبداع.