ايطاليا تحتفل بمئوية مخرج فيلم « معركة الجزائر» الفنان جيلو مونتكورفو
روما : موسى الخميسي
ظلت الفئات الشعبية متأخرة نسبيا في ادراك قيمة الفيلم كوسيط تعبيري يوظف للدعاية والتثقيف، لأنها ظلت تتشبث بوسائل دعايتها التقليدية القائمة على الكلمة المكتوبة والمسموعة، الا ان السنوات الاولى التي اعقبت سقوط الفاشية الايطالية، شهدت ايطاليا نهضة كبيرة لصناعة السينما الايطالية، فكانت الافلام الواقعية في عقدها الاول تحمل توقا كبيرا الى الحقائق التي كان يتم تقييم الافلام على اساس ارتباطها او عدم ارتباطها بها، على اعتبار انها وسيط اخلاقي إضافة الى قيمتها الفنية المتميزة، فهي ترتبط تاريخيا باستديو هات مدينة السينما» تشينا شيتا» في العاصمة الايطالية التي افتتحها موسوليني في نيسان/ ابريل 1937 لتكون ابرز مصانع الاحلام الايطالية. فترة التحرير والقضاء على الفاشية دعت القوى الديمقراطية الى انتزاع السينما من احتكارات المؤسسات الفاشية، لإدراكها ان هذا الفن هو اداة تعبير حيوية ومهمة، ووسيط يمكن من خلاله المساهمة في انعتاق جميع فئات المجتمع من براثن الفاشية ومؤسساتها التي سخرت الفيلم السينمائي لممارسات النظام وافكاره. ودعت هذه القوى الى ايجاد سينما تعبر عن حاجات هذه الطبقات المسحوقة لاجل المعرفة وتقويم الواقع الثقافي والاجتماعي والتاريخي، فأسس اليساريون الايطاليون تعاونيات سينمائية أخذت تنتشر في عموم البلاد، وبرز من رحم تلك التعاونيات كبار مخرجي الواقعية الايطالية الذين استطاعوا خلال سنوات قليلة ايجاد سينما تتوغل في جوانب مهمة من حياة الناس، وهو مادفع المسيرة السينمائية الى الامام شكلا ومضمونا. وكانت لاطروحة رائد الواقعية الايطالية روسيليني : « قبل كل شيء علينا ان نعرف الناس كما هم، يجب ان نحمل الكاميرا وننطلق الى الشوارع والطرقات وندخل البيوت، اذ يكفي ان نخرج الى اي منعطف ونقف في اي مكان ونلاحظ ما يدور بعيون يقظة لكي نخرج فيلما سينمائيا حقيقيا». كانت تلك الاطروحة بمنزلة استنهاض لكل السينمائيين الايطاليين من اجل تحطيم الحواجز بين الفن والحياة، فاطلقت الواقعية الجديدة العنان للارتجال والحدس والاعتيادية اليومية في حياة الناس، لتقدم جماليات ذات طبيعة جماعية مستندة في انطلاقتها هذه من الواقع نفسه ليتحدث عن نفسه، متحررة من الاستديو هات والديكورات والخيال الكاذب والمؤلفين وكتّاب السيناريو ومديري التصوير والممثلين المحترفين الذين ضللتهم الايديولوجيات، لتعتمد على الناس البسطاء من الفلاحين والصيادين والعمال الذين اصبحوا نجوما حقيقيين يكررون ايماءاتهم اليومية امام الكاميرات التي اكتفت بتسجيل الواقع.
ومن هذه الابواب التي فتحتها السينما الجديدة، دخل الشاب جيلو بونتوكورفو ( 1919- 2006) الى عالم السينما. فقد كان قد اتجه في بداية حياته الاولى الى العمل الصحفي عقب نيله الشهادة الجامعية في علوم الكيمياء من جامعة مدينة بيزا التي ولد فيها عام 1919، لكنه لم يلبث ان تخلى عن مهنة الكتابة في الصحافة الايطالية واتخذ من الكاميرة السينمائية وسيلة للتعبير ، وحقق من خلالها جملة من الافلام التسجيلية القصيرة التي تناولت الاوضاع السياسية والتحولات الاجتماعية الصاخبة ، وكان على نحو مباشر لصيق بتيار افلام الواقعية الايطالية التي كان زملاؤه في السينما الايطالية الجديدة امثال ميخائيل آنجلو انطونيوني وفردريكو فيلليني الذي هو الاخر انتقل من الصحافة الى السينما واليو بيتري وفرنشيسكو روزي وغيرهم. قد اسهموا في وضع البذرة الاولى، يسعون لتصوير ايطاليا التي يمكن رؤيتها كما هي في الحقيقة، من اجل ازالة قناع الفحولة الايطالية الشهيرة،التي روجت لها الفاشية، ليكشفوا عن الاعماق بكل حساسيتها وهمومها وارتباكاتها، كما انهم يحاولون رد اعتبار لهذه السينما وما اصابها من ضرر نتيجة سيطرة النتاج الفاشي على اسواق العرض المحلية .
لكن تجربة المخرج السينمائي الشهير جيلو بونتوكورفو الذي تحتفل ايطاليا بمئوية ميلاده هذه الايام ، وتعده احد فنانيها الكبار، ، احد ابرز مخرجي السينما السياسية في العالم والذي حاز في العام 1966 على الجائزة الكبرى» الاسد الذهبي» في مهرجان البندقية ، وجائزة النقاد في مهرجان « كان» في السنة نفسها ، عن فيلمه الذائع الشهرة والصيت « معركة الجزائر» الذي عرض في جميع انحاء العالم ، ولم توافق الحكومات الفرنسية بعرضه في صالات البلاد الا عام 2004. والفيلم يروي فترة من فترات كفاح الشعب الجزائري ابان ثورة التحرير، يستمد قصته من وقائع حقيقية عاشها المناضل الجزائري ياسف سعدي، وهو احد ابطال معركة مدينة الجزائر عام 1957 ، انطلاقا من حي القصبة العتيق. قام بدور البطولة المناضل ابراهيم حجاج(1934 -1996) الذي وقف لاول مرة امام كاميرة سينمائية، واستدعاه المخرج الايطالي الشهير لوكينو فيسكونتي بعد رؤيته للفيلم للعب دور « العربي» في فيلم «الغريب» ، المقتبس من رواية الروائي الفرنسي البير كامو ، جنبا الى جنب الممثل الايطالي الراحل مارشيلو ماسترياني. وساهم بونتوكورفو مع الكاتب الايطالي فرانكو سولوماس والمناضل الجزائري ياسف سعدي بكتابة السيناريو. اما الموسيقية التصويرية للفيلم فكانت من نصيب الموسيقار الايطالي الشهير الحاصل على الاوسكار اينو موريكوني . ودخل الفيلم لاول مرة، قائمة افضل خمسين فيلما سينمائيا في العالم واعتبره النقاد واحدا من افلام الانطلاقة الاولى لتيار السينما السياسية والذي شكل مع فيلم « زد» 1969 للمخرج اليوناني غوستا غافراس بداية النجاح الجماهيري لهذه الظاهرة من الافلام.
كانت السينما عند بونتكورفو مختلفة عن بقية افلام زملائه ،كان ميالا في جميع افلامه لرؤية الواقع بوصفه عملية تغيير محتوم ، لايمكن التغاضي عن الحساسية الروحية لهذا التغيير ، ولا يمكن تغليف صلاته الفكرية بالاوهام الخادعة التي نشرتها الفاشية في هذه الصناعة الفنية الحساسة ، فهو يعرف جيد» ان مشكلة الابداع، هنا في هذا البلد، هي مشكلة قائمة على الدوام باعتبارها مشكلة وجودية تنشأ من التناقض الدائم بين الجمهور والفنان، والسينما الايطالية الجديدة تحاول تجديد نفسها من خلال تجديد التيار السياسي فيها»، فكانت جميع أفلامه تحمل امكانية التعامل معها بافتراضات تنطلق من الواقع الايطالي الذي تعيشه ايطاليا بتحولات تمثلت في تيارات فنية كانت تسعى في مجتمع توحد من جديد وتشكلت لديه مقومات فكرية وتقنيات جديدة للتحرر من النمط الذي فرضته الفاشية التي حولت الانسان الى انتاج، سلعة ما. وقد وعى مهمة المساهمة في تطوير موضوعات افلام السينما الجديدة، وكسبها حسا انسانيا جديدا، باعتبارها تفاعلا ديناميكيا، فعلى سبيل المثال ، فيلمه الشهير « معركة الجزائر» فلقد سعى بونتوكورفو ، الى اقامة علاقة مع الجماهير الجزائرية على اساس تعويضها عن حرمانها بتقديم عالم آخر، بعيدا عن عالم النجوم وما يحيطهم من سحر واغراء وترف، ولا يؤدي بالفيلم ممثلون محترفون ، فهو لم يستبعد الجماهير من ركائز الصراع الدرامي، ولم يقدم لنا الا خبرات الشعوب في نضالها من اجل نيل حريتها والتخلص من الاستعمار، وهذه هي المعاني المضمرة في قراءة فيلمية تتضح لنا هويتها الحقيقية، فهو تقدم على الشاشة نفس الجماهير الشعبية الجالسة في قاعة العرض، فهنا نجد الكاميرا وقد وضعت امام ابناء الشعب الجزائري ،نقطة الانطلاق لما يسمى» سينما الشعب»التي كتب عنها الراحل بونونتوكورفو ، ،متأثرة الى حد كبير بما حدث في فرنسا في مرحلة « الجبهة الشعبية» عام 1936 حيث استطاع رائد « السينما البديلة» جان رنوار، الخروج بالسينما لتمهد لتيار الواقعية الجديدة وتتحرر من جمودها العقائدي، وتتجه الى الخيال الشعبي، وتحتضن الحلم بالغد وهي على ارض الحاضر.الا ان ظاهرة الفيلم السياسي الايطالي التي ارتبطت باكثر من 30 مخرجا سينمائيا ومن ضمنهم الراحل بونتوكورفو،الذي ادرك اكثر من غيره، ضرورة الحاجة لخلق وسيلة تعبير حديثة تحرر الكاميرا السينمائية من براثنها التقليدية المهيمنة، وخلق سينما بديلة بجماليات جديدة ، لتكون خارج نمط الانتاج الهوليودي ، ترتكزت على صراع درامي محوره حركة القوى الاجتماعية، الاقلية التي يحميها ميكانيزم النظام والتقاليد واجهزة القمع والقهر، والاغلبية التي يتخذ واقعها اليومي صورة بطل دائم .