شكيب كاظم
اقرأ ما يشير إلى أن فكر المعتزلة قد تأثر بالفلسفة اليونانية، كما أن هناك من يقول بتأثر النحو العربي بالفكر الفلسفي، ولاسيما في قضية العامل والمعمول، ولقد صدر هذا عن بعض المستشرقين، كما قال به الدكتور إبراهيم بيومي مدكور (١٩٠٢-١٩٩٦) رئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة، الذي تولاه خلفا للدكتور طه حسين.
الذي أريد قوله إن تلاقح الفكر الإنساني، والتأثر والتأثير، مسألة أمست في عداد المسلمات، فما عاد صفاء الفكر خالصا ولاسيما بعد ثورة الاتصالات وحتى قبلها، من خلال النقل والترجمة، ولا تبقى منزهة عن التأثر والأخذ سوى المداميك الأولى في ثقافة البشر ومنها: ملحمة ( كلكامش) للشاعر العراقي المجهول الهوية ( هو الذي رأى) فضلا عن (الإلياذة) و(الأوديسة) لشاعر اليونان هوميروس و(الأنيادة) للشاعر فرجيل وغيرها، وما بقي ظل كل عيال على الآخر، وهو الذي أفاض فيه الأدب المقارن، لكن الذي أريد قوله إن فكر المعتزلة في أطواره الأولى على يد واصل بن عطاء الغزال (٨٠-١٣١) وما تلاه ما كان متأثرا بالآخر أبدا، وإذ اجزم وما في العلم جزم، فلأن حركة الترجمة ما كانت قد بدأت، وهي إنما بدأت؛ كما يعرف الدارسون أيام الخليفة المأمون بن هارون الرشيد (١٧٠-٢١٨) فضلا عن أن فكرة الاعتزال إنما نشأت بعد أن اشتجر الخلاف بين الأستاذ وتلميذه في قضية مرتكب الكبيرة، الذي سمته الخوارج كافرا، وأخطأ بعض المرجئة إذ قالوا هو مؤمن لإقراره بالله ورسوله وكتابه وإن لم يعمل به، وأخطأ الحسن البصري ( توفي ٩٦ أو ١١٠) إذ سماه منافقا.
خلاف الطالب مع الاستاذ
لكن واصلا بن عطاء الغزال الالثغ خالف أستاذه الحسن البصري، فقال بالمنزلة بين المنزلتين لا هو بمؤمن ولا هو بكافر، واعتزل المسجد الذي كان يدرس فيه أستاذه البصري، واتخذ له مكانا آخر فقال الحسن البصري (لقد اعتزلنا واصل) ومن هنا جاءت التسمية، وإن كان هناك من يقول إن الحسن طرده فاعتزل. وأكاد أميل إلى الرواية الأولى فهي أقرب إلى العقل وهي الاذيع وهي الأسير.
إذن في هذا الوقت المبكر، وعيش المجتمعات في قارات منعزلة منقطعة، يكون من العسف إتهام الفكر المعتزلي بالأخذ والتأثر، مع إقراري أن ليس عيبا أن تأخذ وتتأثر شرط أن تشير، لكن هذا لم يحصل في البدايات، قد يكون حصل لدى المتأخرين وبعد أن نشطت حركة الترجمة وتحولت بغداد إلى عاصمة الدنيا ثقافيا يحج إليها أهل العلم والبحث والدرس، وأرى أن ما ينطبق على الحسن البصري وواصل بن عطاء، ينسحب على مجايليهما والقريبين زمنيا منهما أمثال: عمرو بن عبيد ( ت ١٤٤) وبشر بن المعتمر (ت٢١٨) وإبراهيم بن سيار النظام (٢٢٠) وثمامة بن الأشرس (٢٢٥) وأبو الهذيل العلاف (٢٢٧) لكن تجد في المتأخرين فكرا فلسفيا كما لدى أبي علي الجبائي (٣٠٣) وأبي هاشم الجبائي (٣٢١) والمعتزلي الشهير القاضي عبد الجبار الهمداني (٤١٥) الذي قرأت فصولا من كتابه المهم ( تنزيه القرآن عن المطاعن) فضلا عن المرزباني(٣٨٤) والرماني (٣٨٤) والشريف المرتضى (٤٣٦) وجار الله الزمخشري (٥٣٨) صاحب التفسير الشهير الموسوم (الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل) المعروف اختصارا ب( الكشاف).
كما يحاول بعض المستشرقين، وبعض الباحثين من العرب والمسلمين، النيل من العقل العربي، وجعله عيالا على الآخر، وإذ حاولوا تشويه الفكر المعتزلي بالنص على أخذه من وتأثره بالفلسفة اليونانية، فان النحو العربي ما سلم هو الآخر من هذه الفرية، مع أن نظرة متأنية غير متعصبة وباحثة عن الحقيقة، تؤكد إن عملية تقعيد قواعد اللغة العربية ونحوها، إنما جرت – أيضاً- قبل حركة الترجمة بعقود، وان النحويين واللغويين الأوائل كانوا يخرجون إلى البوادي لأخذ اللغة وقواعدها وما ذهبوا إلى اليونان! لا بل بلغ من تحرجهم أنهم نصوا على قبائل بعينها أجازوا الأخذ عنها، خشية تسرب اللحن والخطأ والغلط، لأنها كانت تقيم في قلب الجزيرة العربية، وامتنعوا عن الأخذ من قبائل تسكن أطرافها، إذ أخذوا عن قيس وتميم وأسد فإن هؤلاء هم الذين أخذ عنهم أكثر ما اخذ ومعظمه (..) ثم عن هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم. تنظر ص ٢٠ ص٢١ من كتاب (من تاريخ النحو) للأستاذ سعيد الأفغاني. طبعة دار الفكر- بيروت من غير تاريخ.
هل قرأ الجاحظ أرسطو؟
وما فرغنا من هذا الأمر، حتى قرأنا دراسة عنوانها (هل قرأ الجاحظ» فن الشعر» لأرسطو)(1) وإذ يؤرخ الباحث بالتاريخ الميلادي، لاغياً الهجري وهذا لا يصح في قواعد البحث العلمي، وكان يجب تأرخة تلك القرون بالهجري، وهذا مما يأتلف مع حقائق البحث والأشياء، وحتى سقوط الدولة العثمانية، أو الجمع بين التقويمين، والباحث أستاذ جامعي عراقي، عمل في المؤسسات الجامعية التونسية الرصينة، وانتقل منها إلى جنيف، الأمر الذي يزيد الأسى والاستغراب.
يبدأ حديثه متوجسا متسائلا» هل قرأ الجاحظ أرسطو؟ ثمة شكوك كبيرة تحيط بالموضوع. من المعلومات الشائعة التي تحتاج تدقيقا أن كتاب (فن الشعر) لأرسطو لم يترجم في زمن الجاحظ»٧٧٦-٨٦٨»، فإن ما نعرفه عن ترجمات الكتاب أنها تقتصر على ترجمة أبي بشر متى بن يونس القنائي» ٨٧٠-٩٤٠»من السريانية…..).
إذن فتأثر الجاحظ بكتاب أرسطو غير مؤكد، لأن من ترجمه جاء للدنيا بعد وفاة الجاحظ بسنتين، لكن هذه الحقيقة الساطعة التي دونها الباحث ذاته، ما منعته من الارتياب بمنجز الجاحظ الثقافي، وكأن القضية محاولة سلب العرب كل أهمية وتأثير، ومحاولة تهديم مرتكزاتهم الفكرية واحداً تلو الآخر، وتركهم هملاً عيالاً، مستهلكين غير منتجين، فكيف لهؤلاء أبناء البراري والصحاري، الذي فجر الإسلام طاقاتهم، كيف لهم أن ينتجوا فكراً ونحـواً والان جاحظا؟!
إذن لابد من الالتفاف على هذه الحقيقة الناصعة التي سطرها الباحث ليقول:» لكن ثمة ما يفيد بوجود ترجمات غير هذه، قد يرقى بعضها لزمن الجاحظ، وقد يبرهنها مداورة ابن النديم في (الفهرست).
ولنقف مليا عند قول الباحث (مداورة) فهي ليست مباشرة وواضحة بل حمالة أوجه، وجعلها وسيلة للوصول إلى غايته، نسف المعية الفكر الجاحظي الذي يمثل علامة باهرة شاخصة في التراث العربي، وجعله عيالاً آخذاً غير مبتكر.
قال الباحث، «فهو يذكر (أي ابن النديم) عندما تحدث عن أرسطو كتاب» الكلام على أبو طيقا ويقال بوطيقا، معناه الشعر، نقله أبو بشر متى من السرياني إلى العربي (…) وإذا كانت ترجمة متى معروفة، وهو المولود بعد عامين من وفاة الجاحظ، فابن النديم يذكر من مترجمي أرسطو ابن ناعمة (…) ترجم سنة ٢٢٠اي ٨١٥ م(…) وسنة ترجمته تقع في حياة الجاحظ».
أقول: ولو قبلنا هذا النص والإلحاح على سنة الترجمة ٢٢٠وهي تقع في حياة الجاحظ، فإنه لم يذكر كتاب (فن الشعر) لأرسطو، بل كلام لثامسطيوس عن بوطيقا، وما الدليل على وصول الجاحظ إليه؟ والبحث العلمي يتنافى مع الرجم بالغيب.
الزمن القديم والدقة في تاريخ الأحداث والشخوص
وإذ الهدف الذي يرمي إليه الباحث، الغاء المعية الجاحظ، فإنه يفسر النصوص الواردة في كتاب (الفهرست) لابن النديم (٣٨٤) كما شاء له الهوى قائلا؛» ويذكر الفهرست كذلك كتاب ريطوريقا ومعناه الخطابة ويصاب بنقل قديم» فيتدخل الباحث ليؤكد لنا أن» نقل قديم يعني غالباً القرن الثامن أو التاسع زمن الجاحظ أيضاً».
وإذ كان عليه أن يقول القرنين بدل قوله القرن! فأعود لأتساءل لماذا يجب أن يكون الزمن القديم هو زمن الجاحظ؟! ولماذا لا يكون قبله ولماذا لا يكون بعده؟!
ويسفح الباحث أمامنا ظنونه و(ولعل) أنه مواصلا بحثه» لعل ترجمة أو مختصر ترجمة لكتاب أرسطو هذا، أو أحد كتبه الأخرى كان موجوداً في مكتبات الوراقين زمن الجاحظ، وقد اطلع عليه الأخير، وهذا ما أذهب إليه لأكثر من قرينة غير هذه».
وإذ وجد الباحث تهافت آرائه القائمة على الحدس والتخمين والظنون فيستدرك» لكن الدلائل المنطقية المطروحة هنا لا تستقيم إلا بالمقاربات النصية» فإنه يلتجئ إلى رأي الباحث الدكتور طه الحاجري (١٩٠٨-١٩٩٤) في كتابه ( الجاحظ: حياته وأثاره) طبعة دار المعارف بمصر ١٩٦٢، الذي يؤكد أن كتاب أرسطو لم يترجم في عصر الجاحظ، وهذا رأي قاطع جامع مانع، لكن الباحث الرصين الحاجري يرجح ويحتمل أن الجاحظ تأثر بحديث اليونان عن المحاكاة، رائيا أن هذا لا ينفي احتمال علمه بمحتوى الكتاب قبل ترجمته لصلاته الوثيقة بالتراجمة وصحبته للعديد من الكتاب المتأثرين بالثقافة اليونانية.
إذن الدكتور الحاجري يؤكد عدم إطلاع الجاحظ على كتاب فن الشعر لأرسطو لأنه لم يترجم في زمنه، لكن يحتمل علمه بمحتواه، لكن الباحث صاحب دراسة (هل قرأ الجاحظ» فن الشعر» لأرسطو) لن يمنعه أي دليل من الوصول إلى هدفه، وهو تحجيم التألق الجاحظي، فكيف لهؤلاء العرب البداة الجفاة أن يكون لهم عقل منتج؟!
وإذ أفهم الحاكية والمحاكاة، اقرب إلى التمثيل وتقليد حركات الناس مستندا على قول الجاحظ في كتابه ( البيان والتبيين) الجزء الأول ،الصفحة٦٩ من طبعة مكتبة الخانجي عام ١٣٨٨-١٩٦٨،فان باحثنا يؤكد» ومع هذا نجد الحاكية من الناس يحكي ألفاظ سكان اليمن مع مخارج كلامهم لا يغادر من ذلك شيئاً وكذلك تكون حكايته للخراساني والاهوازي والزنجي والسندي والحبشي وغير ذلك (…) كما أنت تجده يحكي الأعمى بصور ينشئها لوجهه وعينه وأعضائه لا تكاد تجد من ألف أعمى واحداً يجمع ذلك كله فكأنه قد جمع كل طرف حركات العميان في أعمى واحد». ويواصل الجاحظ ليقول إن هناك من ينهق أفضل من نهيق الحمار، فيجعل الحمير تنهق معه، والكلاب تنبح مع من ينبح مثلها، لكن هذا الحديث البسيط عن المحاكاة، لابد أن يوجهه الباحث الوجهة التي يريدها ويرضاها، فلابد أن يكون حديثه هذا هو الأساس المفهومي لنظرية أرسطو في فن الشعر! ولابد أن تكون هذه الفقرة التي أوردتها أنفا من حديث الجاحظ، لا بد لها بعد تأملها-كما يقول الباحث-وبالحري أن تشير إلى فكرة المحاكاة المستفادة عند الإغريق في فنون المسرح والرسم، ولست عارفا كيف تكون علاقة بين محاكاة حركات الناس والحيوان نهيقا ونباحا ومواء، وبين فن المسرح والرسم وفن الشعر؟!
تأثر الجاحظ بأرسطو
وإذ رأى الباحث أن كنانته قد فرغت من سهامها، وان خرطوش مسدسه قد خلا من رصاصاته، فلا بد من سهم أخير ورصاصة يوجهها لجسد ابي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، فلابد أن نجهز عليه ويجب أن يكون هذا النص متأثرا بالفكر الأرسطي قائلا: «وإذ لم يقم الجاحظ صلة في فقرته أعلاه (والأفضل والأفصح أن يقول في الفقرة آنفة الذكر، إذ يبدو أنه متأثر بأساليب المراسلات بدوائر الدولة!) بين المحاكاة وفن الشعر، فقد أقامها في جملته المهمة التي أوردناها في سياق مختلف، وهو يقول (أي الجاحظ)» إنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير» جنس من التصوير دليل قوي إلى أنه يقيم، على خطى أرسطو علاقة وثيقة بين فن الشعر وفن التصوير. وهو ما يعود إليه في عبارة أخرى:» وأجود الشعر ما رايته متلاحم الأجزاء، سهل المخارج، فتعلم بذلك أنه أفرغ واحداً وسبك سبكا واحداً، فهو يجري على اللسان كما يجري على الدهان».
ويجب أن تكون صورة الدهان هذه التي ذكرها الجاحظ متأثرة بأرسطو! لأنه في تقدير الباحث ما كان هذا ممكنا للجاحظ من غير قراءة أرسطو بطريقة ما! فحرام أن يعرف الجاحظ مثل هذه الصورة، فالمقارنة بين التصوير، الدهان والشعر لم تكن موجودة في الثقافة العربية عصر الجاحظ!!
ويظل يلاحق الجاحظ فلا يترك له فضيلة، فحتى لو قال الجاحظ:» والصوت هو آلة اللفظ بظهور الصوت» فلا بد أن يكون قوله هذا متأثرا بالكتب المنطقية المسماة (الاوركانون) المنسوبة إلى أرسطو طاليس أفندي! التي لعل ابن المقفع (١٠٦-١٤٤) نقلها إلى العربية فوقعت بيد الجاحظ، والا كيف نفسر أن يقول الجاحظ مثل قولته هذه؟!
ويظل كل كتاب ترجم في الدنيا فلا بد أن يسطو الجاحظ على ما فيه، فاذ ذكر الصوت الذي هو آلة اللفظ، فيجب أن يكون قد تأثر بفكرة الرنة المنبعثة من الصوت الواردة في كتاب الاوركانون الأرسطي، لأنه لم يجد- في تقديره- في الإرث النقدي العربي تحليلا للصوت بصفته الجوهر الذي به يوجد التأليف يطابق دقة عبارة الجاحظ مع وفرة الكتابات عن الحروف والأصوات، حتى عصر أبي الفتح عثمان بن جني (٣٢٢-٣٩٢) الذي يلقي على الصوت نظرة متفحصة مع الانتباه إلى قول الجاحظ:» لن تكون حركات اللسان لفظا ولا كلاما موزونا ولا منثورا إلا بظهور الصوت» الذي يعني غالباً أن حركات اللسان دون الصوت تبقى محض رنات مستحدثة باهتزاز وإنها لن تصير ألفاظا أو كلاما وهذا ما يقوله الاوركانون»!
لقد قال ابو حامد الغزالي (٤٥٠-٥٠٥) إن الشكوك هي الموصلة للحقائق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بات في العمى والضلال». كما قال الفيلسوف الفرنسي رينييه دي كارت (١٦٥٠) إن الشك يوصل إلى اليقين، ويظل الباحثون ينسبون هذه السابقة العلمية إلى دي كارت متناسين أصلها الغزالي! لكن باحثنا قد صير الحقائق شكا وارتيابا.
حاشية
«١»جريدة بين نهرين الثقافية الأسبوعية.العدد١٠٨الخميس ٢٤كانون الثاني ٢٠١٩ دراسة كتبها الدكتور شاكر لعيبي.