طائر يشبه سمكة…
محمد جبير
من الصعب أن تذهب من الرواية إلى القصة القصيرة جدا والتي لايتجاوز عدد كلماتها أكثر من 150 كلمة، تلك هي الصعوبة التي تقف بين فنين يعتمدان على مواصفات خاصة لكل منهما، ولايمكن إيجاد رابط مشترك سوى البحث عن الجديد الدال الموجز وليس لإعادة تجارب كتابية على نسق ما قدمه الأوائل من روّاد هذا الفن وأبدعوا فيه أمثال وليم سارويان وآخرين ممن كتب في هذا الشكل من الكُتّاب الغربيين.
جاءت تجربة الروائي محمد حياوي في هذا الكتاب «طائر يشبه السمكة» بغلاف المبدع الفنان «صدام الجميلي» وزيّن داخله بتخطيطات الفنان «كريم سعدون» المستلّة من نصوص الكتاب، حيث اجتمع الثلاثة على أن يقدموا رؤية كتابية وسرديات صورية لحالات إنسانية من واقع حياة الإنسان العراقي.
لكن يبقى السؤال الأهم، كيف يمكن للكتاب أن يقدم هذا الواقع المتغير ليس في الساعة، وإنما في الدقائق والثواني ولايضمن لحظة استقرار في الفكرة أو الحدث، وكيف يمكن الإمساك بالحدث الراكض إلى مستقبله المجهول، إلى موته المحتم في لحظة ولادته أو انبعاثه من بين أكوام الحجارة والرماد صورة مجسدة لوحشية العقل البدائي، وكيف يمكن لفنٍّ حضاري أن يلتقي بحضارة التوحش الدموي التدميري؟ كل ذلك يكون قائما في أثناء الكتابة بالكلمات وفي الصور التي ضمّها إصدار «شهريار» الجديد.
استل الفنان صدام الجميلي فكرة سردية الغلاف الصورية من النص السردي الذي كتبه محمد حياوي في الصفحة «78» وحمل عتبة «دراجة»، وهو النص الخامس قبل الأخير من نصوص هذا الكتاب وجاء بـ»94» كلمة فقط، بمعنى أن الجميلي قرأ نصوص الكتاب كلها حتى تضيء في رأسه ومضة فكرة جديدة أو ولادة نص جديد من خلال نص مدون، وأنا على يقين أن هناك أكثر من نصٍّ في هذا الكتاب هو منبع ومعين صوري للفنان المبدع الذي يبحث عن التميز في سردياته البصرية، وهي المساحة الأكبر في هذا الكتاب والتي تركها لزميله الفنان «كريم سعدون» ليحرث في نصوص إبداعية ويحفر فيها بصرياته الناطقة بروح النص السردي.
جاء طائر يشبه سمكة بقسمين، الأول سجّله تحت عنوان «سعادة الفتى الجريء»، أما القسم الثاني فكان «لا تخبروا انجلينا أنني ميتة»، انشغل في القسم الأول بما هو يومي وحياتي في ظلّ استقرار لا تعصف به حوادث العنف والموت العشوائي، وهذا لايعني بالضرورة أن هذه النصوص لا تمتلك سحر جاذبيتها الفنية والجمالية، وإنما فاضت بما فيها من إيجاز ودلالة بمعنى النص وجدوى الكتابة لاسيما في نص «ديكتاتور» الذي ختمها بجملته الدالة التي توجت «90» كلمة سابقة في متن هذا النص «قال الديكتاتور بحزن – يا للراعي البائس! كيف سأمشي في الجنة حافيا الآن؟» ص46.
اختص القسم الثاني بتصوير جوانب من التدمير الوحشي لمدينة الموصل أثناء احتلالها من قبل داعش، لاسيما في أحياء الموصل القديمة، وهذه النصوص الدامية والمؤلمة والصادمة في غرائبية واقعها التي تدفن الإنسان والحضارة تحت أنقاض الوحشية الغابرة في عمق الكتب الصفر البالية التي تسرطنت أوراقها بجراثيم الكراهية والعنف لكل ماهو حضاري ومشرق وراكض نحو المستقبل، لأنهم يعيشون في الحاضر وعقولهم تفكر بالماضي الذي يعدونه مستقبلا.
برغم أن هذا القسم ضم «16» نصا قصيرا، إلا أنها جاءت أنموذجا للنص السردي القصير الذي يغني عن الكثير من المواد الإنشائية أو المجادلات والسجالات عن هذا التدمير الوحشي الذي أجهض أحلام الشباب والصبايا في المستقبل الذي يحلمون به ورسموا له صورا بشتى ألوان قوس قزح، ليقف قوس قزح باحثا عن أحلامهم بين ركام أنقاض البيوت المهدمة على رؤوس قاطنيها، وسرقت أحلام الجميع بلمح البصر حتى من دون سابق إنذار، إذ تقتل أحلام الحاضر في غفلة عن المستقبل.
هذه النصوص بما حملته من جمالية هي أشبه بخطاب أحتجاب يقدمه الكاتب إلى العالم المتحضر الذي لزم الصمت أمام هذه الجرائم التي ارتكبت بحق الجمال والمدنية والحضارة والإنسانية، الجرائم التي مورست ضد الطفولة وخنق المستقبل وإشاعة الظلام، إن قراءة نص مثل «سلفي، دراجة، طائر، أمل»، وأخرى تكشف لنا مهارات حياوي في كتابة القصة القصيرة جدا، كما كشف عنها في تجاربه الروائية، وكنت أتمنى بوصفي متلقيا أن يخصص كتاب «طائر يشبه السمكة» لتجارب القسم الثاني لكشف الزوايا المظلمة والموحشة ورصد غرائبية الموت في بقعة آمنة من بقاع العالم أريد لها أن تكون ميدانا لاستعراض وحشية التخلف.
لا أستبعد الجديد المتميز من الروائي المبدع محمد حياوي منذ أن قدّم نفسه في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، وعزز موقعه بمجموعته القصصية «غرفة مضاءة لفاطمة» في أواخر ذلك العقد.