معرض عن مدن المستقبل
روما: موسى الخميسي
لاجل اكتشاف وضع جديد يتخلى عن عقد الاستعلاء، ويعترف بضرورة مجابهة الاراء المختلفة، من اجل خلق حوار حقيقي في العلاقات بين الشعوب، والاستعاضة عن نظام الثقافة الغربية المرتكز على محور واحد بنظام ثقافة الانسان المرتكز على محاور عديدة، تقيم مدينة بولونيا الايطالية الشمالية تظاهرة ثقافية فنية كبيرة في قصر الثقافات، تشمل ندوات،ومحاضرات، ومعارض تشكيلية معمارية، وصور فوتوغرافية.
لا ينكر احد، وجود صعوبات كامنة داخل وجودنا كمجتمعات نامية حيال مهمات جديدة من اجل بناء مستقبل لشعوبنا بعيد عن الظلامية والانكسار، والتبعية، وامام مثل هذه الصعوبات، لابد من وجود ضمانات نجاح تحفز الجميع الى الانطلاق في مثل هذه المبادرات وتفهمنا الرؤيا الجديدة لافاق المستقبل. ان السبيل الوحيد لقيام حوار بيننا وبين الآخر يتمثل بعدم التشبث من ناحية ببعض المقولات البالية التي تجاوزها الزمن ومتغيراته، وايضا عدم الاسترسال الى اوهام مغرية بوجود وحدة قائمة، او اقله جاهزة للبروز من مخبئها، من دون خلق حوار متواز مع الاخر.
عدد كبير من نماذج الاعمال الفنية الحديثة التي تحيط جدران صالات القاعات الفخمة، تعكس صورة للتوجه العقلاني من جهة والشعورية الابداعية من جهة اخرى تتفقان على ضرورة الكف عن المطالبة بمفهوم «التقليد» يشمل تاريخ الانسان بكامله دون اي تمييز جغرافي. بل التاكيد على الاقرار بانه في الاتصال باصول حضارة وثقافة الشعوب الاخرى، يمثل ممرا الزاميا لامكانية بناء تقليد جديد على رماد القديم .
من خلال رؤية متفحصة للنماذج الهندسية المعمارية الحديثة ، حيث توزعت داخل القاعات بنماذج بلاستيكية، فان الحوار بين الحضارة واسطورة العودة الى الاصول ، يحمل اهمية كبيرة في اعطاء الانسان اينما كان امكانية في التغيير المطلوب. اذ ان اللجوء الى شتى المراجع الانشائية، لا يمكن محاسبته كمجرد تذكير سلبي او ترجمة آلية لاشكال ذات هامش ضيق تطغى فيه العدوى والاحتذاء على الابداع. ففي نظر معماريّ الفن الجديد وفي نظر روّاد الحركة الحديثة فان اللجوء الى التقاليد الغير اوربية وخصوصا النموذج المعماري العربي ، يصبح حافزا خلاقا لـ»اصلاح» يتغلب نهائيا على الكلاسيكية الاكاديمية ويفتح مجالا للبحث تتوفر فيه امكانية استخدام طاقات فنية جديدة افرزتها تطورات العمليات الانتاجية.
وعلى سبيل المثال، فانه من المعروف، وهو ما تؤكده الوثائق التي تعرض في هذه الفعالية الكبيرة، فان المعماري الفرنسي «اناتول دي بودو» كان اول مهندس استخدم الاسمنت المسلح في بناء كنيسة «سان دي مونمارت» وفي سلسلة من المشاريع التي بقيت، بكل اسف، حبرا على ورق، يعود بوضوح كلي الى طراز الهندسة العربية التي تحققت في كل من الاندلس وصقلية، اثناء فترات الوجود العربي. وليس من سبيل الصدفة ان نرى، في المجموعة العربية، الفصل بين مواد البناء وطرق نفاذ الضوء اليها وانقاص سماكة القشرة المحيطة بالبنيان قد تلاقي تطبيقات مؤاتية في سلسلة من الانجازات الكبيرة القيمة من جامع قرطبة باسبانيا الى جامع تلمسان بالمغرب وقصر عزيزة في جزيرة صقلية. فاشكال القناطر التي تتداخل بعضها ببعض وتجزئة السقف الى قطع صغيرة يمكن اعادة صفها وتركيبها ، قد مكّن المعماري «بودو» من الارتباط مجددا، عبر التاثير المعماري العربي، بمحاولات تنسيق المساحات التي في الوسط. والعلاقة بين النور والبناء التي كانت، في عصر الباروك، قد لفتت انتباه مهندسين معماريين مشهورين امثال الايطاليين «بورميني، غواريني، وفيتوني» ، الذين بدورهم كانت قد اغرتهم المعرفة المباشرة او غير المباشرة للطراز العربي الاسلامي.
في فتح حوار عميق ومعبر بين الشرق والغرب، تحقق على يد المعماري الاسباني انطونيو غاودي الذي تاثر بالسحر الاخاذ المنبعث من هندسة معمارية غنية جذابة، هي الهندسة المعمارية العربية الاندلسية التي يبرز فيها تنوع عناصر الزينة والالوان الوهاجة، والارتياح النير، وتلعب فيها المواد المستعملة دورها المتميز في اخراج الصور الهندسية.
ان الحوار بين المعماري غاودي والطراز المعماري العربي مكثف خاصة في قصر وحديقة «غويل» وسط مدينة برشلونه حيث يخضع هذا الارث التاريخي لمحاولات جديدة بروح عصرية وحكمة تقنية يتحلى بها مهندس كبير، وباحساس في تزاوج الالوان الزاهية لدى فنان معاصر، تميزت بالتطعيم والالتقاء المستمر بين التقليد القديم ومتابعة السير الى الامام، مع تحطيم كل عوامل الشد الى الوراء وكل القيود التي يفرضها الخنوع الماضي.
والمعرض يتناول تجربة المعماري « ليكوربيزيه» ورحلته الى الشرق الاوسط وخاصة الى العراق والتي شكلت انطلاقا لمحاولاته المعمارية اللاحقة في مطلع الخمسينات والستينات، والتي اعاد الى ذاكرة التاريخ دور الخمير العاطفي في ادراك الاشكال الهندسية واغترف، ليس فقط من التقاليد الاوربية، من طرافة الفن الرومانتيكي، ومن سحر النور الذي يمتاز به الفن البيزنطي وفن الباروك، الا انه اغترف من مظهرية الفن المغربي والمدينة الاسلامية، والذي عكسه، في مجموعه من تصاميمه لبناء جامعة بغداد وملعب الشعب الرياضي، وايضا اعداد تصاميم كثيرة لم تنفذ اخرى في مدينة بغداد، ظهرت جميعها في كتاب حديث صدر في انكلترا.
تبقى الظاهرات التي المحنا اليها، في اطار الهندسة الحديثة، كونها محاولات فردية ، الا انها فتحت ابواب الحوار، اغنت الهندسة المعمارية الحديثة بمفهوم خلاق، يقوم بادخال ما بقي غريبا عنها منذ نشأتها.
ما استعرضناه من نماذج ، يدل وبوضوح على ان نشأة الهندسة المعمارية الحديثة عرفت كيف تستوعب، بفضل الشعور العميق الذي تحلى به روادها ومعلموها، بعض المبادىء القيمة التي يمتاز بها الفن العربي الاسلامي.
السؤال الذي يطرح نفسه على الدوام في مثل هذه الفعاليات الثقافية في الغرب، هو الا يخشى من ان تكون مثل هذه الاهداف التي تطرحها المؤتمرات، مجرد ثوب جديد لاستعمار اكثر رياء وحنكة عبر تخطيط التغلغل الذي لايزال يتجاوب مع السوق الاقتصادية العالمية؟ ان ثقافة الغرب الحالية تفضل، منذ سنوات، لعبة العلب الصينية المعروفة ويطيب لها ان تجد في اي برنامج نفي ذاتها، وفي اي اثبات لوجودها انقشاعها الآلي والتزامها في نقد عقائدية الضمير الضال، المختبىء وراء « النوايا الطيبة» والذي ادى الى رهن القسم الاكبر من العمل الثقافي بما فيه حدود العلوم الدقيقة، معتبرا اياه موجها، دون ريب، لتكريس الوضع القائم وللمحافظة على التوازنات الراهنة او، على اقصى حد، الى تغيرهما تغيرا سطحيا لتأمين الاستقرار الجوهري العميق.