الفن التشكيلي بين الذاكرة العراقية وقيمة الانسان وهويته

لندن – ابتسام يوسف الطاهر:

حضر جمهور غفير الى قاعة ((Arthill Gallery غربي لندن لمشاهدة العرض المشترك للفنانين التشكيليين جلال علوان وعلاء جمعة الذي تخصص في البورتريت، وسمى العرض (ذاكرة عراقية)، تضمن مجموعة من بورتريهات لعدة شخصيات عراقية اثرت في المجتمع العراقي سياسيا او فنيا.
الفنان جلال علوان عرض مجموعة أعمال نحتية تداخلت فيها مواد متعددة لطرح اسئلة عن قيمة الانسان وهويته. سمى معرضه (بورتريت من الشرق الاوسط) فالتماثيل كانت لوجه واحد، ولكن اختلفت التحولات التي اضيفت للوجه لتعبر ربما، عن محنة انسان الشرق اوسطي التي تتماثل في الهجرة والتعرض للحرمان والتعذيب، واعمال اخرى طرح فيها تماهي الاشياء مع الانسان، حتى صارت جزءا منه، في اروقة المعرض اجرينا حوارا سريعا مع الفنانين، وبالرغم من زحمة العمل وانشغالهما، استجابا لأسئلتنا بروح فنية عالية.

  • معظم المعارض المشتركة تحمل ثيمة متقاربة أحيانا، لكن في معرضكما المشترك كل منكما يختلف عن الاخر، بالموضوع والاسلوب؟
    جلال:
    العرض مشترك من حيث الزمان والمكان، لكنه غير مشترك من حيث الثيمة والأسلوب، كل منا عرض تجربته بإسلوبه الخاص، فيمكن ان تقولي انه معرضان في وقت واحد ومكان واحد.

علاء:
المعرض مشترك في المكان فقط، وكل منا له موضوع يشغله، واسلوبه في الطرح مختلف أيضا، وهذا شيء اتفقنا عليه انا وجلال، ان يقيم كل منا معرضه في مكان واحد، ليكون عرضا مختلفا، ولكي تكون فرصة للجمهور لحضور معرضين في مكان واحد.

  • يتعرض الفن التشكيلي للنقد سلبا وايجابا.. فهناك من يعد البورتريت حرفة أكثر منه فن، كما ان الفن المعاصر واستعمال مواد مختلفة (Mix Media) ايضا جديد على المتلقي، كيف واجهتما النقد ومدى تأثيره عليكما؟
    جلال:
    اتعامل مع النقد بتفهم عال، فالكثير مازال يتعامل مع الفن على وفق سياقاته النمطية الكلاسيكية، النحت، حجر أو طين، الرسم فرشة والوان زيتية، لا يستوعب الانماط الجديدة ويعدها مستوردة لا علاقة لها بمجتمعنا، فهناك هوة واسعة بالتعامل بين المتلقي العربي والفن المعاصر، الذي يعتمد على «المكس ميديا»، اذ دخلت التكنولوجيا والمواد الحديثة بتنفيذ الموضوع بل حتى الافكار، فقد تخطت المشروع النمطي، وبالتالي هناك تحد مادي ومعنوي، لكن المتخصصين يتفهمون الاعمال الفنية المعاصرة من خلال التجربة والحرفية، مع اني احيانا اضطر الى شرح مفصل للعمل وما يوحي به، وان كنت غير ملزم بذلك، فهذه مهمة الناقد، لكني افعل ذلك مع الاصدقاء من باب المجاملة والحب، فأشعر انه علي مسؤولية لتبيان انه عمل فني، وذكري سبب بُعد المتلقي وقلة ثقافته بالفن التشكيلي، وبالتعرف على تطورات الفن المعاصر، فالنقد لدينا غير متوفر لان النقاد اغلبهم صحفيون متطفلون على الفن، ولا يوجد متخصصون بفن النقد، في حين نجد في اوروبا ان الطلاب يدرسون الفن، وكيف يرون العمل بعين الاخر، وكيف ينظر المتلقي للعمل. وهذه سلسلة من الاشكالات المترابطة والتي علينا تفكيكها لايصال الفكرة للمتلقي.

علاء:
بالنسبة لمعرضي، لم اتلق نقدا من هذا النوع لسبب ان موضوع المعرض هو استذكار وتخليد لشخصيات اسهمت في تكوين الهوية العراقية، وكان لا بد ان تكون اللوحة واقعية، وفي بعض الاحيان رمزية في مناخها، والبعض منا ربما يتساءل: لماذا يا ترى تم تغييب الواقع عن الفن وجرى أقصاء اللوحة عن مجريات الحياة العامة، وعن هموم الناس ومجريات حياتهم. هناك من يحاججك بالحداثة وهؤلاء نوعان من الفنانين، الاول، الضعفاء غير القادرين على انجاز العمل الواقعي، فنراهم يختبئون خلف الحداثة. والنوع الثاني يعتقد ان تطور المدارس الفنية السريعة هو الذي ادى بالفن الحديث الى هذا الأتجاه المتطرف الحر في العمل الفني. وعلى هذا يتساوى الجميع لديهم بالتقييم السلبي.
وتابع: ولأن أي تغيير يحتاج الى وعي وفهم القيم الانسانية للجمال والحرية، فالفن اساسا نتاج انساني فكري تراكمي للوعي الجماعي في تسلسله الزمني. فالحداثة في الفن ليست أستنساخا للأساليب الغربية، كما نراها عند بعض الفنانين العرب، لخلق تكوينات فارغة المعنى، من دون المرور بمراحل الانتاج الفكري الطبيعي الخالص والمتفرد بخصوصيته، والتي حصلت بعد المرور بكل المدارس الفنية على مدى قرون. وهذه الاتجاهات والتجارب الاوروبية ضجت بها تجارب الفنانين العرب منذ ستينيات القرن الماضي وحتى يومنا هذا، ومازالت تجترها اروقة الفن، وهذا النوع من التهافت قد اسس له نقاد مرحلة، لا يملكون المقومات لمثل تلك التجربة.

وأضاف: الفن وعلى مدى تأريخة لم يتوقف عند مدرسة معينة، فكان يتجاوز تلك الحدود دائما، سعيا لأستيعاب معطيات عصره، والامتزاج معها، والسعي لتجاوزها، وعلى الرغم من ذلك فهو يترك نماذج فريدة واسماء دويها مستمر، غير ان الحداثة كنزعة تجديدية ليست وليدة اليوم، بل مرت بمراحل تطور على مدار الحياة وتطورها ومن أول عمل فني للانسان وحتى يومنا هذا، والفنان الحقيقي أكبر من المدارس وألاتجاهات الفنية، فهو الذي يصنعها وليس العكس، الفنان بوصفه خيارا انسانيا وابداعيا، دائما يسعى لأن يخلق ذائقة جمالية قادرة على تذوق الأعمال الجديدة وتطورها ان كانت اعمالا واقعية او غيرها.

تعقيب: ربما لأن لدينا ممنوعات بشأن التشخيص والرسم، دينيا.. فلجأ البعض الى الزخرفة والحروفية. بينما شاهدت اعمال بورتريت رائعة رسموا فيها نبلاء وشخصيات من الطبقة الارستقراطية.

جلال:
الموضوع مختلف، في اوروبا هناك تخصص، فتطلق مسميات على العمل الفني من منطلق معطيات وثقافات، ولديهم متذوقون على درجة عالية للفن، فالعربي الغني، يجبر الساحة الفنية لتميل على وفق ذائقته ورؤيته الفنية، في حين ان الاوروبي الغني لديه ثقافة ورؤية فنية مختلفة.

*ماهي الطريقة التي تتبعونها لانجاز عمل ما؟ فهناك من يعمل سكيتش من ثم ينفذ العمل، وهناك من يحلم بالفكرة او العمل ويبادر لتنفيذه؟ وماهي الصعوبات التي تواجهكم بمراحل تنفيذ العمل خاصة لمن يستعمل عدة مواد للعمل؟

علاء:
انا شخصيا لا اعمل سكيتش، وانما ارسم عندما تتكون الصورة في مخيلتي عن اللوحة، وتنضج وطبعا يسبقها استطراد للخيال إضافة الى البحث، والمشكلات التي واجهتها في هذا المعرض، صعوبة الحصول على صور الشخصيات التي عرضتها بالمعرض، فمثلا هناك من اعترض على رسم احدى الشخصيات السياسية، فرفض تزويدي بالصورة التي طلبتها!

جلال:
لا توجد صعوبات بالنسبة لي فاستعمال وسائل ومواد متعددة تسعدني وتمنحني حرية اكبر من استعمال مادة واحدة للنحت مثل الحجر، او الطين فقط، فالحجر وادواته تخلق نتائج محددة في حين ان استعمال مجموعة مواد (Mixed Media) تمنحني حرية مثل العمل الذي انجزته واحبه المتمثل برأس بأقداح شاي مع الصحون، ففيه جانب حواري بين الفورم والنتيجة، فاقداح الشاي توضع عادة بشكل مسطح فوق طاولة، في حين هنا حولت رأس الانسان الى طاولة، فمزجت بين الفكرة والشيء..اي التشيء..فتحول الانسان الى شيء!..واعمال اخرى تنتمي أيضا الى فكرة التحول.. كما في السينما حين يتحول الانسان الاعتيادي الى متعدد القوى والقدرات الخارقة. وجعلت الانسان الشرق الاوسطي الذي هو مستهلك وغير منتج، فانخفض مستواه الانساني الى الاشياء التي يستهلكها. مثل عملي لرأس فيه أرجل طاولة، والعمل الذي ذكرته منذ قليل.

  • في بريطانيا هناك تحديات كثيرة تواجه الفنان العربي والعراقي بنحو خاص، بسبب كثرة العروض، وكثرة الفنانين التشكيليين، وتنوع مشاربهم. مع هذا فالكثير من الفنانين تركوا اوروبا واستقروا في بريطانيا، فماهي التحديات التي لاقيتموها؟ وهل وجدتم بريطانيا أفضل من بعض الدول الاوروبية الأخرى؟

علاء:
ربما تكون بريطانيا مختلفة عن بقية الدول وخصوصا لندن، بوصفها وجه للثقافة المتنوعة. ولذلك تجدين فيها فنانين باعداد هائلة، وبرغم وجود اكثر من خمسة آلاف قاعة فن خاصة وعامة حسب الاحصائيات الرسمية، نجد الكثير لم يحصل على فرصة حقيقية لأسباب كثيرة يطول شرحها، ولكن على الفنان أن يستمر بعطائه ويقدم نتاجه الذي فيه خصوصيته، ولا يأتي بعمل يقلد به ما انتجه الفنان الاوروبي قبل عقود ويتصور بأنه سوف يبهرهم ويتلقفونه. فلا مكان لمثل هكذا نوع من الفن.

جلال:
الانجليز لايتعاملون مع الفن عنصريا، أي ان الفرصة مفتوحة لمن يقدم الجديد والمختلف، ولكن القضية متعلقة بالـ «بزنس»، فصاحب الجاليري، رجل اعمال، بضاعته العمل الفني المعروض، ويهمه بيع البضاعة التي يحبها زبائنه، فالقضية لا تتعلق بالفن فقط، كما هو الحال في المتاحف وعروضها الخاصة التي تستقطب الكثير من المشاهدين، حتى لو كانت التذاكر باهظة الثمن، وهنا تحصل الفائدة المادية لهم.. فمن يريد شراء عمل فني أعجبه يذهب للجاليري. ونجاح المعرض له بعدان مادي من خلال بيع الاعمال، ونجاح معنوي، حين يحرك نزعة التساؤل لدى المتلقي والناقد، وبخلق حوارا بين العمل والمتلقي وبين المتابعين مع بعضهم، فردة فعل المتابعين للمعرض ومفاجأتهم اعدها شهادة على نجاح المعرض.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة