طالما سمي بالطفل الأعجوبة الذي هزم بقوة روح إبداعه وإصراره، ضعف بنيته وسقم صحته نتيجة سوء طبيعة ونظام غذائه، وكذا جولاته الموسيقية الطويلة والمتعبة، منذ مراحل مبكرة في حياته.. إنه عبقرية الموسيقى العالمية، ولفغانغ أماديوس موزارت، والتي انطلق سهمها من قلب المأساة وحضنها في القرن التاسع عشر، ليستقر في صميم أيقونة مخزون التاريخ الذي يحكي عظمة المبرزين الخالدين.
دخلت قصة كتابة موزارت: الريكويم أو قدَاس لراحة الموتى، مصاف الأساطير، لكثرة ما كتب عنها بشكل روايات وأوبرات وأفلام متعددة ومتنوعة.
بدأ موزارت تأليف عمله الأوبرالي الجميل الناي السحري: ( Die zauberflote)، في شهر مارس ايار من العام 1791، بعد إصرار زميله، المؤلف والمخرج المسرحي ايمانويل شيكاندر، والذي كان شهيرا بصيته السيء، وعرف عنه تركيزه على دفع المال إلى المؤلفين الموسيقيين مقابل إنتاجهم مقطوعات موسيقية خاصة بأعماله. وآنذاك، وكون موزارت أراد تأليف أوبرا هي ألمانية اللغة، ولأنه أحب نص الأوبرا الألماني وأعجب به، بدأ الكتابة في هذا الصدد، متقيداً بمنهج تكثيف جهوده وأشكال مواظبته، إلا أنه لم يتمكن من إنهائها في صيف ذلك العام، جراء إصابته بحمى نتجت عن إدمانه الكحول. وهكذا بدأ موزارت، حينذاك، الحديث عن الموت بكثرة، حتى انه فاجأ المؤلف جوزيف هايدن الذي كان يعتزم السفر إلى العاصمة البريطانية لندن، بقوله: نلتقي بعضنا للمرة الأخيرة.
كان شهر يوليو من العام نفسه: 1791، حافلاً ومهماً بالنسبة لموزارت، إذ قرع بابه، في أحد أيامه، رجل مجهول الهوية، يرتدي معطفاً رمادياً قاتم اللون، ويضع قبعة عريضة بدت تغطي ملامح وجهه القاسية.
وفور ذلك، سلم إلى موزارت، رسالة غير موقعة، موجهة من أحدهم، وجد، عندما أخذ بقراءتها، أنها تتضمن بين سطورها، طلباً إليه، لتأليف قدَاس للموتى أو جناز: (requiem)، وذلك بأقصى سرعة ممكنة، ومقابل مبلغ يحدده المؤلف بنفسه. فأبلغ موزارت الرسول، قبوله العرض، ولكنه أخبره أنه لا يستطيع تحديد موعد التسليم.
وما كان منه هنا، إلا ان طلب مقدماً، خمسين قطعة نقدية، وذلك كدفعة أولية لقاء هذا العلم. ولم يتأخر ذاك الرجل الغريب، أنئذ، عن نقده المبلغ الذي أراده دفعة مبدئية، مؤكداً له، انه سيعطيه القدر نفسه عند اكتمال العمل.
ومن ثم رحل بسرعة مثل ما ظهر، من دون أن يقدم أية تفاصيل أخرى أو توضيحات. وحال ذلك، ظن موزارت أن القوى الخفية التي لطالما آمن بها هي من طلب الجناز لتكون موسيقى موته هو.
لا أن الأمر في الحقيقة، بعيد عن تلك الظنــون، إذ نعلم، حالياً، أن ذاك الرسول الذي زار موزارت حاملا الرسالة تلك، هو حاجب الكونت فرانز فون فالسيج، والذي كانت قد توفيت زوجته منذ مدة قصيرة، حينذاك.
فطلب الريكويـــم من مــوزارت، ولكنه ابتغى تقديمه للناس، على أنه من تأليفه هو، خصوصاً وأنه كان قد درج على شراء أعمال مؤلفين آخرين، اعتاد أن يقدمها باسمه.
بدأ ولفغانغ كتابة القسم الأول من الريكويم، باهتمام وتمعن شديدين، فعمل به مدة طويلة، على غير عادته. وكان تلميذه ومرافقه، حينها، سوسماير، والذي بقي يلازمه في غالبية الأوقات، خلال كتابته تلك المقطوعة، منكباً على تسجيل ملاحظات موزارت وإرشاداته.
ومن ثم بدأ موزارت، يملي على تلميذه، مختلف الأقسام التالية للمقطوعة، حتى وصل القسم السابع، الشهير باسم: لا كريموزا: (la crimosa). ونتبين في حقيقة الأمر، وعقب التمعن بهذا المنتج الإبداعي، أن موزارت كتب ستة عشر مقياساً فقط، أما الأقسام: من الثامن إلى الثاني عشر، فلا يخفى علينا التثبت من ان كاتبها هو سوسماير نفسه، وذلك عقب وفاة موزارت. لكنه أتم إنجاز هذه الأقسام طبقاً لأفكاره وتوجيهاته وإرشاداته.
ولا غرابة في ترجيحنا احتمال أن زوجته كونستانس، كانت على علم بهوية صاحب الطلب، ذلك لأنها أرسلت للكونت فون فالسيج، بعد سبعة أو ثمانية أسابيع، مغلفاً يوجد في داخله ذاك المنتج الموسيقي العظيم الخالد.
وكان سرور الكونت كبيراً جداً، حتى أنه كتب على ظهر المغلف بالإيطالية :ريكويم، من تأليف الكونت فالسيج: (requiem compost del conte Wallsegg)، ولكنه احتفظ بالعمل طوال سنتين، ثم قدمه في العاصمة النمساوية، فيينا، بمناسبة الذكرى الثانية لرحيل موزارت، تحت عنوان: (قداس للموت) من تأليف ولفغانغ أماديوس موزارت.
كان موزارت يحمل معه أوراق الريكويم، الى السرير، خلال إنجازه ذلك المؤلف الموسيقي، بفعل تدهور حالته الصحية، فكان يملي على سوسماير ملاحظاته بسرعة، ولم يكن الأخير قادراً، في أحيان كثيرة، على فهم ما يريده موزارت، بسبب ارتفاع حرارته وهذيانه، لكنه في ليلة الوداع، وبعد ذهاب طبيبه الذي نصح أهله بالصبر، كونه ليس هناك من أمل في نجاته، استيقظ وأخذ ينفخ كأنه يعزف على الترومبون.
ومن ثم طفق ينظر إلى سوسماير الذي لم يفهم ما يقصده كثيراً، سوى أن عليه استخدام الترومبون في قسم (tube mirum) ضمن المقطوعة تلك، ليكون مدخل هذا القسم، ثم أصيب ببرد وهذيان شديدين، ونام قليلاً، حتى مع صخب أصوات تضرعات زوجته وسوسماير إلى الله، لينهي آلامه، وبعد منتصف الليل بقليل، فتح عينيه بصعوبة، دون أن ينطق بأية كلمة، ثم أطلق أنفاسه الأخيرة وسلم الروح إلى بارئها.