أحلام يوسف
يقول الكاتب والباحث والمترجم سعيد الغانمي، مؤلف كتاب «ينابيع اللغة الأولى/مقدمة الى الادب العربي منذ أقدم عصوره حتى حقبة الحيرة التأسيسية»، عن بداية الفكرة لتأسيس هذا الكتاب:
قبل أكثر من عشر سنوات بقليل، كنت اقرأ احدى روايات الكاتب الليبي إبراهيم الكوني وفجأة شعرت ان شخصياتها تتحدث تماما مثل الشعراء الجاهليين فقلت لنفسي لابد من وجود وشيجة بين ادب الصحراء الكبرى وادب صحراء العرب، وحين انتهيت من كتابي عن إبراهيم الكوني، انكببت على ترجمة كتاب «العرب والغصن الذهبي» لستيكيفيتش في الوقت نفسه كنت قد انتهيت من كتابي عن ابن خلدون «العصية والحكمة» وتعلمت منه ان اهم ما يميز عبقرية بن خلدون، فتح النوافذ الداخلية بين القراءات المتعددة.
يحلم الغانمي بان يشاركه القارئ فعل التأليف، ويرفو فجوات النقص، وكتب يقول: احلم بان يأتي قارئ في المستقبل يكون مثل هذا المشروع بالنسبة اليه مشروعا بدائيا، وحينئذ يجب ان يعذرني، اذ كما قال ابن خلدون في اخر مقدمته: ليس على مستنبط الفن إحصاء مسائله، وانما عليه تعيين موضع العلم وتنويع فصوله، وما يتكلم فيه. والمتأخرون يلحقون المسائل من بعده شيئا فشيئا الى ان يكمل.
يتحدث الكاتب في احد فصول الكتاب عن اللغة العربية الفصحى والجدل المثار بشأنها فالبعض يجد انها واحدة من أقدم اللغات والتي لم يجر تطور عليها، وبدد بعض المسلمات بأدلة واضحة، أولها ان اللغة العربية حافظت على ميزاها بعفل كونها منعزلة، في حين ان اللغة الفصحى سبقتها موجات من العربيات الأخرى والتي اثرت بصورة ما عليها وتركت بصمة عليها، حسب الكاتب.
النقطة الثانية التي تطرق اليها الكاتب والتي فندها، هي ان العرب ظلوا منعزلين في صحرائهم، فيجد الكاتب انهم أي «العرب» عاشوا موجات من الانتشار الذي يصل أحيانا الى العراق ومصر يعقبه انحسار وافول.
يقول الغانمي ان أولى مهمات هذا الكتاب، التصدي لتبديد النظرة «السكونية، اللاتاريخية» وان يتوصل الى مخطط لبيان تاريخية اللغة العربية.
أبرز الكتاب اهم الحقب «اللهجية» والقافية التي افلحت بإنشائها الدول العربية القديمة، وبدأ الكاتب بأقدم الحقب وصولا الى اخرها، وهي حقبة الحيرة التي نشرت العربية الفصحى، اخر لهجة عربية معروفة، وليست أقدم اللهجات حسب قوله.
بدأ الكاتب الحديث عن الحقب التأسيسية العربية التي تدل النقوش على وجودها، وكانت أولها السلالات الجنوبية، معان او معين، والتي تتفاوت تقديرات المؤرخين بشأن تاريخ تأسيسها فمنهم من يرجعها الى الالفية الثانية قبل الميلاد، ومنهم من يرجعها الى القرن الخامس قبل الميلاد.
وقتبان التي عثر على اطلال عاصمتها «تمنع» في منطقة «بيحان»، وقد نجحوا في تكوين سلالات حاكمة عديدة.
وسبأ التي دونت لهجتها في خط المسند الجنوبي الذي كان ينطوي على 29 حرفا حسب الغانمي، الذي ذكر ان لهجتهم تمتاز ببعض الخصائص أهمها استعمال هاء التعدية بدل الهمزة في الفصحى اذ يكثر لديهم الوزن الصرفي للفعل «هفعل» واداة التعريف السبئية حرف النون التي تضاف الى اخر الكلمة واداة التنكير حرف الميم فالملك بالتعريف يكون ملكن، وبالتنكير يكون ملكم.
حضرموت كان لها نصيب في حديثه عن الحقب التأسيسية، حيث تمكنت من تأسيس عدة سلالات حاكمة مستقلة، وتعرضت شيوة عاصمة حضرموت الى تدمير يبدو ان السبأيين هم من الحقهم بها، لكن الملك «يدع ايل بين بن رب الشمس» استطاع تجديد بنائها فيما بعد.
تنفرد الحضرمية بلهجاتها الخاصة، التي تعد السمة الأبرز فيها من الناحية الصوتية، انها تعامل صرتي الشين والثاء بوصفهما فونيما واحدا، وليسا منفصلين كما هو الحال في اللهجات الأخرى، أيضا تعامل الزاي والذال بالشكل نفسه، فيكتب العز، بالحضرمية الغذ ويكتب عزام، عذدام، ومثل القتبانية تضع السين بدل الهاء او الهمزة المتعدية.
وبعد كل التفاصيل التي ذكرها في كتابه عن السلالات الجنوبية تطرق الى السلالات الشمالية، وهي ثمود التي عرفت قبل الإسلام على انها شعب ابيد لارتكابه المحارم بقتل الناقة السماوية، اما في المدونات التاريخية فيظهر اسم ثمود منذ منتصف القرن الثامن قبل الميلاد، منتشرين في مناطق الحجاز وصولا الى سيناء وقسم من الشام وكانت قبيلة قدار هي الأشهر بين القبائل بوصفها القبيلة الكبرى.
يقول الغانمي ان ما ميز الثقافة الثمودية، انها بقيت ثقافة شعبية تتمتع بحرية واضحة، إضافة الى بعض المؤشرات التي تدل على انهم كانوا يعبدون اله يسمونه «هأيل هأبتر»، أي الاله الذي لم يلد ولم يولد.
اللحيانيون ثاني حقبة كتب عنها الغانمي ضمن السلالات الشمالية، وهي دولة او مملكة تكونت في شمالي الحجاز قبل الميلاد بعدة قرون، لكنها ازدهرت كدولة لها نظامها الخاص في عصر مزامن لعصر البلاطمة في مصر، وعثر على حوالي 400 نقش حياني في منطقة وادي العلا والخريبة، التي كانت قبل استيلاء اللحيانيين عليها منطقة للديدانيين.
تمكن الباحثون حسب المؤلف من تنظيم قوائم بعدد من أسماء ملوكهم ويبدو منها ان اللحيانيين تأثروا ببلاطمة مصر فأطلقوا على ما لا يقل عن ثلاثة من ملوكهم اسم طلمي.
الانباط، الحقبة الثالثة ضمن السلالات الشمالية التي تحدث عنها الغانمي في كتابه، اذ يقول انهم شعب عربي أفلح بتأسيس امبراطورية قوافل مهمة، واستغل موقعه النائي القائم على حافة الصحراء كوسيط تجاري للربط بين الشمال والجنوب والشرق والغرب.
اصطحب الانباط معهم الهتهم القديمة مثل اللات والعزى ومناة وذي الشرى وشيع القوم لكنهم تأثروا أيضا بالآلهة اليونانية في الحقبة الهلنستية فصارت لديهم الهة، خليط من الالهة العربية والالهة اليونانية مثل زيوس-هدد».
الصفويون وهو اسم يطلق على القبائل العربية التي عاشت في منطقة الصفا من بادية الشام وما جاورها ويمكن ان يكون السبب بإطلاق تلك التسمية اسم البيئة التي اختاروا الانتشار فيها وهي الصحراء الصخرية، لان كلمة صفاة تعني الصخرة أيضا.
الحضر مدينة في شمالي العراق وتحديدا بين الموصل وتكريت، تأسست بحدود عام 70م. عثر في الحضر على ما يزيد على 400نقش بعضها مؤرخ غير ان الكثرة الغالبة منها، نقوش اهداء او صلوات يرجو فيها كاتبها من الهته ان تباركه او تتذكره مكتوبة باللغة الارامية.
التدمريون، ويعيشون في مدينة قديمة اسمها تدمر ظهر اسمها لأول مرة في نقوش الملك الاشوري «تغلات بليزر الأول» في صيغة «تدمر امورو» حيث كانت تقطنها القبائل الامرية الارامية.
ثم تدرج الى حقبة الحيرة ومن بعدها العصبية والحقبة التأسيسية. يتحدث الكاتب عن مراحل عدة مرت بها اللغة العربية والظروف التي أسهمت بتطورها، وذلك بالاستناد الى النقوش التي عثر عليها بأكثر من مدينة وبعدة ازمان.
خاتمة الكتاب كانت مع الملاحم التاريخية وابطالها الاسطوريين والتغييرات التي تطرأ على كل ملحمة خاصة الشفوية منها، فيضاف اليها ويتغير بعض من تفاصيلها لتنتج ملحمة مغايرة تماما لما بدأت منه، وقد ركز الكاتب على أهمية الحقبة التاريخية المسماة بالحيرة، بتأسيس المفاهيم الأدبية الجاهلية وتأثير الإسلام على إعادة صياغة بعض من تلك الملاحم والمفاهيم، ومقارنة الحكايات القصصية الجاهلية بأنموذج ملحمة عربية مفقودة.