د. عمار ابراهيم الياسري
شهدت فلسفة ما بعد الحداثة تحولات ابستمولوجية ألقت بظلالها على الأجناس الأدبية والفنية بشكل كبير، فقد أعلنت احتجاجها الساخر على كل ما هو قار وراسخ من الأشكال الفنية التي قعدت لها فلسفة الحداثة، ليشهد الشكل تحولات كبيرة تمظهرت على شكل نسقين، الأول منها نسق ثيمي أو موضوعاتي تمظهرت منه نصوص تحاكي المقهورين والمهمشين والقابعين على حواف التحقير مثل موضوعات الجنسانية وما بعد الكولونيالية والزنوجة والنسوية، في حين عني النسق الثاني بالتحولات الشكلية إذ اعتمدت العروض على الكولاج والتشظي الزمني والميتا مسرح وضياع التجنيس.
تعد الفنون المسرحية من الأجناس الفنية التي كانت مشغلا خصبا لتنظيرات ما بعد الحداثة من خلال توظيف الأنساق التي تم ذكرها سابقا، فالوعي في صيرورة مستمرة لا ترزخ للثابت ابدأ، والذات الإنسانية تبحث عن الفرادة والتجريب في كل حين، فقد شهدت حقبة الستينيات بروز اشتغالات بصرية تعالقت مع أطروحات ما بعد الحداثة مثل مسرح المقهورين مسرح (الصم) في أميركا ومسرح الأقليات مثل الزنوج والهنود ومسرح الخبز وغيرها.
ومن الإشكال المسرحية التي حاولت خلخلة المركز المسرحي وتفكيك المركزيات مسرح المكفوفين ، فالمركز المسرحي على وفق تنظيراته الجمالية التي أرساها ستلانسلافسكي ومايرهولد وبريخت وغيرهم لم تشتغل على الممثل الكفيف في تطبيقاتها الأدائية مما جعله خارج اللعبة المسرحية ، ولو تابعنا العرض المسرحي (أوفر بروفة) الذي قدمته فرقة السراج المسرحية، والذي كتبه لؤي زهرة وأخرجه الدكتور علي الشيباني، نلحظ في المقدمة المنطقية للأحداث التقيعدات الجمالية للمركز، فالمخرج الذي أدى دوره الدكتور علي الشيباني دخل في جدل معرفي مع مجموعة المكفوفين الراغبين في العمل المسرحي، فهو يرفض فبولهم في العرض المسرحي معللا ذلك بعدم قدرتهم على تجسيد المهارات الأدائية والرؤية الإخراجية، وبعد حواريات طويلة يوافق على طلبهم مع عدم حصوله على ممثلين أسوياء، إن الموافقة من قبل المخرج على قبول الممثلين المكفوفين خلخل اليقينيات المعرفية المسرحية بعد أن وجه لها ضربات متوالية من داخلها مما أدى تهشيم المركزيات المتسيدة سابقا ليحل محلها الهامش المكفوف معلنا عن تسيده على بنية العرض.
لم يكتف الهامش المسرحي في المسرحية بترسيخ شكل مسرحي جديد هو مسرح المكفوفين فقط، بل أعلن عن احتجاجه الساخر على كل السنن القيمية التي وضعها المركز من خلال بنيته السلطوية المتمثلة بسلطات الكهنوت والمجتمع والمؤسسة والسياسة وما إلى ذلك، إذ شهد العرض المسرحي لعبة ميتا سردية رسخت لنا بنية الميتا مسرح من خلال تشييد عرض داخل عرض أخر متضمنا التعليق على الأحداث ونقدها وتحريكها وما إلى ذلك، فالاحتجاج المسرحي الذي قدمه المهمشين تجلى من خلال المسرحية المضمنة التي وزع فيها المخرج الأدوار على فريق المكفوفين الذين تقسموا على وفق تشكيلة حكومية تجسد دورها على رقعة الشطرنج، ومن خلال أداء الأدوار التي توزعت ما بين الملك والوزير والجندي عمل المخرج وفرقته على تعرية السلطة المركزية وتبيان نكوصها الحياتي مع الشعب بواسطة التقانات الميتا سردية، اذ نشاهد الممثلين يرفض أداء دور الجندي معلقا على ذلك، بأن الجندي هو وقود المعارك دوما، بل يستفز المخرج من اجل إسناد دور أخر له، وهذه الاشتغالة يطلق عليها التعليق النقدي الميتا سردي، والحال ذاته مع دور الحمار الذي علق عليه ( لماذا مات الحمار .. هل هو مهندس ولم يجد تعيين، هل هو طالب ولم يجد مدرسة أو رحلة، هل هو مريض ولم يجد مستشفى) ، فيما شهد العرض تحولات الشخصية ميتا سرديا من العرض الرئيس إلى العرض المضمن والتي تعد من احتجاجات الميتا سرد المسرحي، في حين تجسد كسر الإيهام في أماكن عديدة منها حوارات المتلقي محسن الأزرق والمتلقية وداد هاشم مع مخرج المسرحية من اجل المطالبة بوضع تذاكر للعرض المسرحي، والحال ذاته تكرر من قبل المخرج ومجموعته مع الجمهور من اجل لفت انتباهه المتلقي إلى ما تعاني منه الذات الإنسانية من قلق وجودي كبير، وهي الاشتغالة الميتا سردية الثالثة .
إن العرض المسرحي بنسقيه الثيمي والشكلي اشتغل على خلخلة المركز، إذ أضحى المهمش كينونة قارة لها خطابها الساخر متخذه من تقانة الميتا سرد وسيلة تعمل على تقويض المركز فكريا من جهة وتنشيط ساردية المتلقي من جهة أخرى، والتي يقع عليها عبأ لملمة خيوط المسرحية في بنية شكلية جديدة، وهذا ما ذهب إليه الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا حينما جعل من المتلقي بنية ناصة جديدة تعمل على تفكيك العرض ومن ثم تعيد بناءه.
إن المخرج الدكتور علي الشيباني يمتلك قاموسا بصريا متجددا، يحاول من خلاله البحث عن المغايرة والاختلاف والتجديد، وهذا ما تشتغل عليه نصوص ما بعد الحداثة المنفلتة من التواتر الشكلي ذو التقعيدات البنيوية.