الذكرى العاشرة لرحيل الفنان المسرحي .. عزيز الكعبي

جاسم العايف
تصادف هذه الأيام الذكرى العاشرة لرحيل الفنان المسرحي البصري (عزيز الكعبي)، والذي توجه نحو عوالم المسرح ممثلاً شاباً منذ منتصف ثلاثينيات القرن المنصرم، برفقة مجموعة من زملائه الشباب، ومنهم: توفيق البصري، وصالح السوداني، وماجد السعد، وعويد محسن، (أبو ليلى) وكان يؤدي بعض الأدوار النسائية، ومحمد الجزائري، تحول الى الأخرج التلفزيوني في السبعينات، وزكي بنيان الساعدي، والياس حنا، وسميع وافي، وابراهيم طويق، والبير توماس. وغيرهم.
وساهم (عزيز الكعبي) بدور (مسرحي -صغير) مع الفرقتين المسرحيتين للفنانين (جورج ابيض)، و(يوسف وهبي) عند زيارتهما (البصرة)، في بداية الخمسينات وأواسطها، لتقديم عروضهما المسرحية فيها، وبرفقتهما الفنانتين (أمينة رزق)، و(فاطمة رشدي). دخل (الكعبي) المسرح عن عشق شعبي، ووله ذاتي لازمهُ طوال حياته، وتعلم دروس المسرح بالممارسة المتواصلة الجادة. وتوجه لهذه الخشبة القائمة على فراغ لابد منه، والتي هي شكل تجريدي، إلا أنها تترجم أعظم لحظات الإنسان المصيرية وتقدم صراعه وكفاحه وخيباته وأمانيه وانتصاراته. هذه الخشبة التي رأى، (الكعبي)، أنها أقدس ما في الحياة، مُقدماً خدماته التي لا تقف عند حدود المسرح بصفة (كومبارس، وممثل، ومؤلف، ومخرج) فقط. بل تجاوزَ ذلك إلى مساهمات أخرى في أروقته، عاملاً على تثبيت تلك الخشبة أو قالعاً ذلك المسمار أو مُنضداً هذا الصف من الكراسي أو(مُصَلَحاً) بعضها، مُستغلاً خلو القاعة قبل أو بعد نهاية العرض المسرحي، والعمل على إكسابها لحظة التألق، مُتكفلاً بكل ما يبعث على احترام مكان العرض المسرحي وأهميته الاجتماعية -الفنية. لم يكن(الكعبي) وهو العامل البسيط في حياته اليومية المهنية، (موزع بريد في دائرة البريد المركزية)، يتصرف أو يعرف (الاستنكاف)، إزاء قاعة المسرح وخشبته.
لقد عمل الراحل ما لا يمكن لأي (مثقف) أو (أستاذ) في المسرح أن يقومَ به. إذ نقل التقاليد المسرحية، على وفق ولعه بها ومسؤوليتها الاجتماعية -الفنية، إلى أسرته الفقيرة، فبدأ بها، وبإصراره المتواصل، قادها جميعاً نحو خشبة المسرح. فمسك (الكعبي) بيديَّ ربة البيت أم الأولاد والبنات زوجته السيدة (سميرة الكعبي)، واخذ يُلقَنها فن التمثيل، واحترام تقاليد الفن المسرحي وأخلاقه المترفعة، دافعاً إياها، بإصرار وجدية، من مطبخ الأسرة، ومكابداتها البيتية اليومية، وعناء تربية الصغار، وعبودية العمل المنزلي، نحو المشاركة والإحساس الإنساني-الاجتماعي بأهمية العمل الفني-المسرحي، وأنضج خبرتها، بتواصل لم ينقطع، على نار الرفقة والتجاوز الاجتماعي، حتى حصلت على درع ولقب أفضل ممثلة مسرحية -بصرية.
كما كتب بعض المسرحيات وأخرجها وقدمها بدعم المنظمات الجماهيرية المدنية والنقابات العمالية، بعد ثورة 14 تموز 1958، معتمداً فيها على جميع إفراد أسرته. وبذا يكون (عزيز الكعبي) قد عمل على المسرح (الأُسري)، ويعد رائداً في البصرة بهذا المجال، وقد سبقَ النخب المسرحية البصرية التقدمية، التي اعتمدت هذا التقليد في أعمالها المسرحية التي قُدمت خلال مرحلة السبعينات، ومنها (بيادر الخير والمطرقة)، وكذلك الأعمال المسرحية التي قدمتها(جماعة كتابات مسرحية)، وفرق مسرحية أهلية أخرى، انتشرت في كل اقضية ونواحي البصرة خلال الربع الاول من عقد السبعينات، وكانت المدينة وقصباتها تحتفي (مسرحياً) بالمناسبات الوطنية – الاجتماعية , وخاصة في اليوم (العالمي للمسرح) والذي يوافق (السابع و العشرين من شهر آذار) كل عام، و يتم فيه تقديم بعض العروض المسرحية العالمية – المحلية، بالترافق مع تكريم رواد الحركة المسرحية في المدينة، و لكن في بداية عام 1978, تم منع جميع الفرق المسرحية الاهلية من العمل مع انها فرق (هواة)، وقد سبقها ختم ابواب(نادي الفنون) بالشمع الاسود من قبل السلطات المحلية، لأسباب معروفة.
وللتاريخ فإن الفنان (عزيز الكعبي) قدم مسرحية (الصيادون والتفاحة)، في منتصف الخمسينات على القاعة المسرحية لنادي (الاتحاد الرياضي في البصرة)، من تأليفه وإخراجه وتمثيله، وكانت (بانتوميم)، وتقديمه لهذه المسرحية تضعه في خانة الرواد المسرحيين بالبصرة والعراق لهذا النوع المسرحي. كما كان(الكعبي) يُقدم أعمالاً مسرحية متنوعة، من تأليفه وإخراجه، يبرز خلالها، بالتجربة الحياتية الشخصية، معاناة شرائح اجتماعية مهمشة ومسحوقة اجتماعياً. وبقي يعمل في المسرح، خلال أكثر من خمسة عقود، مرافقاً لأهم الفنانين في المسرح البصري -العراقي. وساهم في نشاط (الفرقة القومية للتمثيل) في البصرة. ومثل في بعض المسرحيات التي قدمتها الفرقة ومنها: (الرواد)، تأليف (عبد الله حسن)، وإخراج الفنان (محمد وهيب)، و(شناشيل حسيبة خاتون)، التي عَرقها وأخرجها الفنان الراحل (عبد الأمير السماوي)، عن مسرحية (الناس اللي تحت) للكاتب المصري المسرحي (نعمان عاشور). وغيرهما.
كما شارك في عروض مسرحية أخرى لفرق أهلية غير رسمية، ولم يقترب، نحو ما أطلق عليه خلال مرحلة التسعينيات (المسرح التجاري)، حتى أقعده المرض. ألفَ الفنان (عزيز الكعبي) واخرجَ ومثلَ، بعض المسرحيات ذات الشخصيات المغمورة اجتماعياً، معالجاً ثيماتها الكبيرة، ببساطة، ولم يستطع التنقيب في تلك الثيمات، عن الأسباب الجوهرية الكامنة، تحت سطح تلك العلاقات الاجتماعية المعقدة. وبحكم شعبيته بقيَّ على مفهوميته المسرحية، التي تقودها الذائقة الشخصية، ولم تتحول لديه تلك الرؤى والأحاسيس الشعبية إلى نوع من التنظيم الممنهج، بسبب الظروف العامة المعقدة، ويقع في مقدمتها عدم استقرار الأوضاع الاجتماعية وتبلور قيمها المدنية، نتيجة الأحداث العاصفة التي ميزت سنوات ما بعد 14 تموز 1958، وانعدام المعاهد المتخصصة بالمسرح والفنون الأخرى في المحافظة.
تعرض(الكعبي) لإهمال المؤسسات الفنية الرسمية، خلال مرضه زمن النظام السابق، وبعد تحسن صحته لحد ما، واجه سنوات الحصار بشجاعة، اذ اقتعد بجوار (سينما الكرنك) أمام (بسطة صغيرة) لبيع السكائر والعصائر و(الكرزات). وبعد سقوط النظام تم التنادي من قبل بعض الفنانين البصريين المسرحيين، وأعلنوا تشكيل (اتحاد المسرحين العرقيين في البصرة)، وعمل الاتحاد، مباشرة، على إقامة المهرجان المسرحي الأول، وحمل اسم الفنان (عزيز الكعبي)، وفاءً له ولخدماتهِ للحركة المسرحية في البصرة. و لم يتمكن (الكعبي) من حضوره بسبب وضعه الصحي المتردي، و أقيم المهرجان الأول بتاريخ ( 15 – 2 – 2004- دورة الفنان الرائد عزيزي الكعبي),وفي (بهو الإدارة المحلية)، قبل السيطرة عليه من قبل( إحدى الحركات السياسية) المقبلة من الخارج، حتى تم تخريبه وحرقه، قبل خطة (فرض القانون في البصرة)، من قبل المليشيات المتقاتلة على النفوذ في المحافظة؟!.ثم (هـدم )هذا الصرح الثقافي، الذي سبق و عُرضت فيه, أهم المسرحيات العربية، والعراقية، والبصرية وجميع الفعاليات الفنية – الثقافية ومنها مهرجان المربد الشعري لغاية منتصف التسعينات. وبرحيل الفنان المسرحي (عزيز الكعبي)، تكون الحركة المسرحية في البصرة، قد فقدت فناناً مسرحياً، شعبياً، عمل بإخلاص ودأب متواصلين، على خدمتها، وذاكرةٍ كان يمكن استثمارها وأرشفتها، خاصة وانه كان آخر الأحياء من الجيل المسرحي الرائد في المدينة، لإلقاء الضوء على عقود مسرحية، يجري التعتيم عليها بإصرار ونوايا واضحة، لأجل ديمومة عتمة الحياة الراهنة، على وفق الرؤى والتوجهات الظلامية، ونظرتها الدونية لكل الفنون، ومنها المسرح العراقي- البصري وتقاليده الفنية التنويرية الباهرة.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة