شادي روحانا
لينا مرواني وكتابها (أن تعودي فلسطين)
لينا مِرواني كاتبة تشيلية وُلدت في سانتياغو عام 1970 لعائلة ترجع أصولها إلى مدينة بيت جالا الفلسطينية، من طرف الأب، وإلى إيطاليا من طرف الأم.
حتى الآن، لم تستطع لينا تعقّب أصل اسم عائلتها «مِرواني \ Meruane»: هل كان اسم عائلتها، في فلسطين، هو مِرواني فعلًا، أم مَروان؛ أو، ربّما، الاسم يعود إلى شخص ما كان يحمل هذا الاسم؟
لكن ما تعرفه لينا هو أنّ حالها كحال آلاف الفلسطينيين أبناء وبنات الجالية في أميركا اللاتينية، وعلى وجه الخصوص تشيلي: يحملون أسماءً كانت نتيجة «حوار الطرشان» القصير ذاك، الذي دار بين المهاجِر الأوّل (أو المهاجرة الأولى) ناطق العربيّة وموظّف الهجرة ناطق الإسبانية (أو البرتغالية) عند وصول الأوّل أحد موانئ أو نقاط حدود أميركا اللاتينية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين؛ يحملون أسماءً كان موظّف الهجرة دوّنها، في بطاقة تحمل الاسم، العائلة، العِرق، الدّيانة، والمهنة، بأبجدية غريبة.
باكورة أعمال لينا مرواني الأدبية هي مجموعة Las infantas القصصية، الصادرة عام 1998 في سانتياغو دي تشيلي، وآخرها هو نص Contra los hijos، أو «ضد الأولاد»، الصادر عام 2018 في المكسيك. خلال العشرين عامًا التي دارت بين صدور الكتابيْن، أصدرت لينا أربع روايات، ومسرحيّة واحدة، وأعمالا من نوع آخر تحوم حول خط التماس بين أدب الرحلات والنقد الأدبي، مثل كتاب «رحلات فيْروسِيّة»، حول التعامل مع مرض الإيدز وتخيّله في آداب أميركا اللاتينية، و»المُرتدّات»: أنتولوجيا 88 قصيدة للشّاعرة التشيلية غابرييلا مِسْترال (صاحبة جائزة نوبل في الأدب العام 1945).
كتابها عن فلسطين Volverse Palestina («أن تعودي فِلسطينَ») صدر في صيغتيْن، نُشرت آخرهما عام 2015 في المكسيك. ويدور النص حول علاقة الكاتبة بفلسطينيّتها، ساردة رحلتها إلى فلسطين المُحتلة ومُحاولة الإيجاب عن سؤال: هل زيارتها لبلد أجدادها هي بمثابة عودة أم لا؟
اليوم تعيش لينا مِرواني في مدينة نيويورك في الولايات المتحدة الأميركية، حيث تدرّس آداب وثقافات أميركا اللّاتينيّة في جامعة نيويورك.
ترجمة «أنْ تعودي فِلسطينَ» إلى العربيّة، التي أنجزتها أخيرًا عن الإسبانية، سوف تصدر هذا العام عن الكتب خان في القاهرة.
هنا مقتطف منها:
جِبالُ الأنْديز، وَهْيَ في الخَلْفِيَّةِ
سِلْسِلَةُ الجِبالِ الثَّلْجِيَّةِ في الخَلْفِيَّةِ عَلى الطَّريقِ. أَعْمِدَةُ أَشْجارِ كُرومِ العِنَبِ المُقَلَّمَةِ تَسيرُ في الاتِّجاهِ المُعاكِسِ، مُذَكِّرَةً إِيّايِ بِحالَةِ التّنْويمِ المِغْناطيسيّ الّتي كانَ لِهذا المَشْهَدِ المُؤَلَّفِ مِنْ عِصِيٍّ راقِدَةٍ أَنْ يُثيرَها فِيَّ. أَفْتَحُ الشُّبّاكَ لِأَمْلَأَ جِسْمي بِالهَواءِ البَرِّيِّ لِيُلْهِبَ رِئَتَيْ. أَنْ تَتَنَفَّسَ الرّيفَ، الآنَ، هُوَ شَكْلٌ مِنْ أَشْكالِ التَّسَمُّمِ. شَكْلٌ آخَرَ هُوَ ما نَقومُ بِهِ الآنَ مِنْ سَيْرٍ إِلى الوَراء. أَنْ تَشُنَّ غارَةً عَلى زَمَنٍ لَمْ يَعُدْ لَهُ وُجودٌ. أَنْ تَقومَ بِنُزْهَةٍ في زَمَنٍ حاضِر. تَفْتَقِرُ عَمَلِيَّةُ عُبورِنا هذِهِ إلى تِلْكَ الدّراماتِيّةِ الَّتي بِها سافَر إلى هذا الوادي المُهاجِرونَ الأَوائِلِ. أُفَكِّرُ في تاريخِ تِلْكَ
«أَقْلَعَتِ السُّفُنُ مِنْ حَيْفا وَرَسَتْ في أحد مَوانِئِ البَحْرِ الأَبْيَضِ المُتَوَسِّطِ (جِنُوَة أَوْ مَرسيليا) قَبْلَ أَن تَمْضِيَ إِلى القارَّةِ الأَمْيركِيَّةِ بِسَراديبِها المَليئَةِ بِعَرَبِ رُكّابِ الدّرَجَةِ الثّالِثَةِ، بِفِئرانٍ، بِصراصيرَ جائِعَةٍ»
الرّحلات البَحْرِيَّةِ الوادِعَةِ، بَلِ المُؤْلِمَةِ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، وَالَّتي، بِعَكْسِ الهِجْرَةِ الأوروبِّيَّةِ، لَمْ تَكُنْ مَدْعومَةً مِنْ قِبَلِ حُكومَةٍ ما أَو اهْتَمَّ أَحَدٌ بِالتَّيسيرِ لَها. أَقْلَعَتِ السُّفُنُ مِنْ حَيْفا وَرَسَتْ في أحد مَوانِئِ البَحْرِ الأَبْيَضِ المُتَوَسِّطِ (جِنُوَة أَوْ مَرسيليا) قَبْلَ أَن تَمْضِيَ إِلى القارَّةِ الأَمْيركِيَّةِ بِسَراديبِها المَليئَةِ بِعَرَبِ رُكّابِ الدّرَجَةِ الثّالِثَةِ، بِفِئرانٍ، بِصراصيرَ جائِعَةٍ. كانَ هؤُلاءِ العَرَبُ التّائِهونَ مَسيحيّينَ أُرثوذُكس يَحْتَقِرُهُم الأَتْراك، إذْ كانوا، أَي الأتراك، يَعْتَبِرونَهم مَبْعوثينَ مِنَ الغَرْبِ، ثُكْنَةً أوروبّيّةً، مَحميّينَ لَدى دُوَلٍ عَدُوَّةٍ. هُمْ، أَي العَرَبُ، غادَروا أَراضيهم حامِلينَ جَوازاتِ سَفَرٍ، ويا لِلْمُفارَقَةِ، عُثْمانِيَّةٍ، مِمَّا سَمَحَ لَهُمْ بِالفَرارِ مِنْ تِلْكَ الامْبراطورِيَّةِ، مِنْ خِدْمَتِها العَسْكَرِيَّةِ كَكَبْشِ فِداءٍ في أَيّامِ الحَرْبِ. مَن اسْتَطاعَ أَنْ يَنْفَذَ بِجِلْدِهِ مِنَ الحُكْمِ بالإعْدامِ فَعَلَ ذلكَ حاملًا مَعَهُ تَنَاقُضًا أَبَدِيًّا: أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ التُّرْكِيِّ. اسْمُ العَدُوِّ كَوَصْمَةٍ مَوْشومَةٍ عَلى خارِطَةٍ ضَبابِيَّةٍ تَرْسُمُ الهِجْرَةَ تِلْك. راحَ العَرَبُ يَجُرّونَ بَعْضَهُم بَعْضًا، نَحْوَ الأَمْيركَتَيْن، نَحْوَ تشيلي، بِكَمّيّاتٍ مُذْهِلَةٍ؛ لَقَدْ أَسَّسوا، في كُلِّ بُقْعَةٍ مِنَ الوادي المُمْتَدِّ بين سِلْسِلَتيْ الجِبال، خُرافَةً تَقولُ إنَّ الأَرْضَ الجَديدةَ تَسْكُنُها روحٌ سورِيَّةٌ أو لُبْنانِيَّةٌ أَوْ فِلَسْطينيَّةٌ تَسْمَحُ لَهُم بِأَنْ يَعيشوا حَياتَهُمْ تَمامًا كَما كانَتْ، كَما لَمْ تَعُدْ. أَقْنَعوا أَنْفُسَهُم بِأَنَّ ذلِكَ هُوَ خَيارَهُم الوَحيد. بَيْنَ حُقولِ المِشْمُشِ وَالزَّيْتونِ وَلاحِقًا الأَفوكادو والباذِنْجان والكوسا المُسَمّاة بِالطِّلْيانِيَّةِ، وَالبَندورةِ الحُلْوَةِ اليانِعَةِ. في الأَماسي تَحْتَ ظِلِّ الدّالِيَةِ الحائِنِ قِطافُ ثِمارِها بَدْءًا مِنْ شَهْرِ أيلول قَبْلَ أَنْ يُيَبَّسَها الخَريفُ. تَحْتَ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ المُنَعِّمَةِ ذاتِها راحَ الفِلَسْطينيّون، الكُثرَ أَصْلًا، يَتَكاثَرونَ لِيُصْبِحوا ضِعْفَي عَدَدِ العَرَبِ الّذينَ وَفَدوا مَعَهُم بِالسُّفُنِ إِيّاها، رَسَوْا مَعَهُم في ريو دي جانيرو، تَسامَروا مَعَهُم عَلى أَقْمارٍ مُشْرِقَةٍ مِن على البَحْرِ حَتّى نُزولِهِم في بوينوس آيريس، عبَرَوا مَعَهُم سِلْسِلَةَ جِبالِ الأَنْديز عَلى ظَهْرِ بِغالٍ يَسوقُها بَغَّالٌ، أَو، فيما بَعْد، عَلى امْتِدادِ سِكَّةِ الحَديدِ العابِرَةِ لِجِبالِ الأَنْديز والّتي فُكِّكَتْ كلها تقريبًا.
*ضفة ثانية