(دراسات تاريخية)
من الكتب المهمة التي ألفتها الدكتورة أنعام مهدي علي السلمان في قمة نضجها الفكري، فقد كتبته بعد عام (2003)، تناولت فيه موضوعات جديدة تخص تبلور الذاكرة العراقية بموضوعات عن المرأة العراقية ودورها البنيوي في المجتمع العراقي مثل: صبيحة الشيخ داود ودور الكرد في المشهد السياسي العراقي، والنشاط السياسي الحزبي في آواخر العهد الملكي، وتداعيات بدايات العهد الجمهوري والصراع بين الملكيين والجمهوريين ممثلة في نشاط السياسي المخضرم رشيد عالي الكيلاني وغيرها من الموضوعات المهمة والشيقة، والتي تجمع بين الابعاد التاريخية والسوسيولوجية والفكرية، وتسهم في تشكيل الذاكرة الجمعية العراقية بأبعادها المتنوعة، فهي حفريات في الذاكرة بقراءات تاريخية جديدة تبتعد عن القوالب القديمة التي نحتت تاريخنا ببعده السياسي واهملت الجوانب الأخرى الاجتماعية والفكرية والاقتصادية التي تتجاوز أهميتها الجانب السياسي في تشكيل الهوية الجمعية العراقية.
تقدم “الصباح الجديد” بين يدي القارئ مختارات من فصول هذا الكتب آلا وهو “حفريات في الذاكرة العراقية…دراسات تاريخية” في حلقات عدة لما له من قيمة كبيرة وممتعة في الوقت نفسه لكونه يتناول موضوعات ذات أبعاد اجتماعية وفكرية تخص النخب العراقية التي تعد عاملا أساسيا في تشكيل الهوية الجمعية العراقية.
الحلقة 5
أ.د. أنعام مهدي علي السلمان
لم تنتظر الحكومة طويلا ففي الساعة الحادية عشرة والنصف من ليلة 9/10 كانون الاول 1958 مثل رشيد عالي الكيلاني ، البالغ من العمر حينذاك (66) عاما ، وعبد الرحيم الراوي البالغ من العمر (37) عاما ، ومبدر الكيلاني البالغ من العمر (34) عاما امام محكمة المهداوي ليدافعوا عن انفسهم في جلسة سرية حيث وجهت لهم تهمة “تدبير مؤامرة مسلحة لقلب نظام الحكم واغتيال عبد الكريم قاسم وتأليف مجلس قيادة ثورة وحكومة من العسكريين والمدنيين برئاسة رشيد عالي الذي سبق ان اتفق مع جمال عبد الناصر لضم العراق الى الوحدة الفورية وان عبد الرحيم الراوي اتصل بجماعة من الضباط واتفق معهم على الخطة بالشريط المسجل واعترافاته وان مبدر الكيلاني عمد الى جمع السلاح والمال وكان وسيطا مع الجماعات وبين رشيد عالي” . وقد استند الادعاء العام على التسجيلات التي قام بها ضباط الامن الذين كلفوا بالمراقبة على الرغم من ان عبد الرحيم الراوي انكر ما جاء بالتسجيلات واتهم الضباط المكلفين من الاستخبارات العسكرية بتخديره ناسيا ان التسجيلات التي سجلت له كانت لاكثر من اجتماع عقدت بتواريخ متفرقة. في الوقت نفسه كان محامو الدفاع الذين كلفوا بالدفاع عن المتهمين من الشيوعيين لان المتهمين لم يوكلوا محامين لهم. وقد برر عبد الجبار الجومرد وزير الخارجية العراقي الى ان اجراء المحاكمة بسرية هدفه تجنب المضايقات الدولية.
لم تستغرق المحكمة مدة طويلة لمحاكمة الماثلين امامها ، ففي الساعة التاسعة من صباح يوم 10 كانون الاول اصدرت المحكمة قرار التجريم والحكم استنادا الى قانون العقوبات البغدادي المرقم (80) ، فقررت ثبوت التهمة على عبد الرحيم الراوي ومبدر الكيلاني اللذين حكم عليهما بالاعدام شنقا حتى الموت. اما رشيد عالي فقد برأ من التهم المنسوبة اليه لعدم توفر الادلة ، مع ذلك اوصت المحكمة بنفيه الى خارج العراق لمدة خمس سنوات وكان قرار المحكمة بالعاد الكيلاني اول قرار تتخذه حكومة الثورة بابعاد مواطن عراقي.
ما ان سمع الكيلاني بقرار المحكمة حتى اخذ يكيل للحكومة الشكر لنزاهتها وتحررها. وفي هذا الصدد يحاول نجم الدين السهر وردى ان يبرئ ساحة الكيلاني ملقيا اللوم على عبد الرحيم الراوي حيث يقول “انساق عبد الرحيم بعيدا وراء اوهامه. وربط معه مبدر الكيلاني الذي لم يفاتح عمه وكان يعتقد انه يعد مفاجأة ساره له حين ينجح في اسناد رئاسة الجمهورية له”. ورغم التبريرات التي قدمها فقد اشار الى ان الكيلاني كان قد اتفق مع رفعت الحاج سري على اسقاط عبد الكريم قاسم واتفق على ان يسند له منصب رئيس الجمهورية وان ما حصل بعد ذلك في اذار 1959 كان قد مهد له قبل القاء القبض على الكيلاني.
لم تنته القضية عند هذا الحد فسرعان ما تسارعت الاحداث بشكل غير متوقع فما ان سمع مبدر الكيلاني وعبد الرحيم الراوي ما جرى حتى طلبا من المحكمة ا تفسح لهما المجال لتقديم ادلة جديدة لا سيما بعد حالة الغضب التي انتابتهما بسبب تصرفات الكيلاني وهوما اشار اليه عبد الرحيم الراوي اذ ذكر انه بعد المحاكمة “تلاقينا ثلاثتنا في الممر المؤدي الى خارج المحكمة وجها لوجه مع المهداوي فالتفت علي وعلى مبدر الاستاذ رشيد عالي الكيلاني وقال اعطيتهم نصف حقهم والله لو ان وحيدي فيصل عمل نصف ما عملوا لاقطعت يده قبل ان اسلمه للقضاء ليقتص منه” ثم قال بصوت منخفض “اترجاك يا سيادة العقيد نحن رايحين عند الزعيم ارجوك خلص معاملتي هذه الليلة حتى اسافر خارج العراق”.
بعد يوم واحد من اصدار الحكم اظهر كل من مبدر الكيلاني وعبد الرحيم الراوي رغبه للاعتراف بما حصل. وبهذا الصدد يذكر العميد الركن جاسم العزاوي ان مبدر وبعد صدور الحكم عليه وتبرئة رشيد عالي استبد به الانفعال فقال امامي “عملها وتنصل منها والله لاجرنه معي الى الاعدام” واضاف العزاوي “ان المعلومات التي اطلعت عليها في حينها تؤكد الن التحرك والنشاط كانا موجودين فعلا وان بعض الاموال وزعت ومقدارها (5000) جنيه وان بعض الذين تسلموا تلك الاموال قد اعادوها بحضوري”.
بحضور بعض رجال القضاء اعيدت محاكمة رشيد عالي عصر يوم 15 كانون الاول 1958 حيث احضر الى محكمة المهداوي متهما بتحريضه من قبل دولة اجنبية على القيام باعمال عدوانية ضد العراق وراح عبد الرحيم الراوي يروي اخبار الاتصالات التي كان يجريها رشيد عالي مع كبار الضباط منهم طاهر يحيى وطه الدوري وعبد اللطيف الدراجي وغيرهم وكيف كان ينتقد حكم عبد الكريم قاسم. كذلك روى للمحكمة طبيعة الاتصالات التي كان يجريها مع شيوخ العشائر في الفرات الاوسط للبدء بالتحرك وان مبدر الكيلاني حصل بواسطة رشيد عالي على السلاح والمال من الجمهورية العربية المتحدة. واضاف في افادته ان الكيلاني كان يرشد ويوجه ويحرض وينتقد الاوضاع وطريقة الحكم وانه كان يخطط لتشكيل مجلس ثورة ووزارة مدنية والسعي لتحقيق الوحدة مع مصر. اما مبدر الكيلاني فقد اعترف بان عمه كان يسعى لاسقاط عبد الكريم قاسم بقوة العشائر للاتحاد بعد ذلك مع الجمهورية العربية المتحدة وان عمه ومنذ مجيئه الى العراق اخذ ينادي بفكرة الوحدة العربية الشاملة التي كان يعتقد ان تحقيقها الفوري هو الضمان الوحيد لحماية كيان البلاد العربية ، كما اعترف انه حصل على عون مالي من مصر بواسطة عمه ، اما يحيى ثنيان فاشار بان الكيلاني اجتمع مع عبد الناصر وتفاهم معه على الوحدة. كما شهد ضد الكيلاني في محاكمته الثانية ناصيف صوايا اللبناني الجنسية والموظف في البنك الذي استلم مبالغ نيابة عن مبدر الكيلاني وعبد الرضا عبد الكاظم الحاج سكر. اما محمد محمود الصواف فقد اعترف بعقد اجتماعات ببيت رشيد عالي لكن الاجتماعات كانت تتحدث بقضايا عامة لكنه اعترف بان الكيلاني كان ضد قانون الاصلاح الزراعي ، كما اعترف بتسلمه مبلغا ماليا مقداره (4500) دينار.
انكر رشيد عالي الاتهامات وابدى دهشته للتغير الذي حصل لموقف الراوي ومبدر متناسياً موقفه منهما، لكنه اعترف انه اجرى اتصالات مع عبد الناصر الذي طلب منه ان يقوم بمساع لازالة الخلاف بين قاسم وعارف ، ومع انه انكر التهمة الموجهة له ودافع عن نفسه في المحكمة مؤكداً انه شخص مصاب بعدة امراض ،الا ان الشهادات التي قدمها كل من عبد الرحيم الراوي وابن اخيه مبدر الكيلاني ،والتي كان سببها تأييد الكيلاني لحكم الاعدام المتخذ ضدها فضلاً عن شعورهما بالحيق لاتهامهما بجريمة تمت تبرئة الكيلاني منها، كانت كافية لحكمه بالاعدام وذلك في 17 كانون الاول 1958 لا سيما بعد ان كشف الاثنان المزيد من المعلومات بضمنها شهادة من ان السلاح والاموال تم تسلمها من الجمهورية المتحدة . وعلى الرغم من الجهود التي بذلها بجدارة محامية عبد الرزاق الحمود مظهراً المفارقات القانونية والتناقضات التي سادت محاكمته وان مبدر الكيلاني وعبد الرحيم الراوي فعلا ذلك للحصول على الرأفه بعد حكمهما بالاعدام ،كما ان محاميه اكد ان العشائر لم تتجه للثورة بل للعصيان للفت انظار الحكومة عن عدم رضاها عن الوضع .لكن الحكومة العراقية،كما يبدو لم ترغب في عودة الكيلاني الى الخارج حراً طليقاً لينشط كقطب يلتف حوله انصار عبد الناصر فحكم عليه بالاعدام .مع ذلك لم يصادق عبد الكريم قاسم على حكم الاعدام بحق الكيلاني بل ابقاه في درج مكتبه وبذلك بقى الكيلاني حياً يرزق واطلق سراحه ،كما سنرى لاحقاً. ومهما يكن من امر فقد اعطى مثول الراوي ومبدر الكيلاني كشاهدي اثبات ضد رشيد عالي الفرصة للحكومة العراقية ان تتخذ ضده اجراءات مشددة وان يظهر بمظهر المذنب امام حاكميه.
لم تكتف المحكمة باحكام الاعدام الصادرة بحق الكيلاني ومبدر والراوي ،بل ارسل عبدالكريم قاسم عليهم في مقره بوزارة الدفاع ودار بين الكيلاني وقاسم حوار قصير اعيد بعده المتهمون الى السجن.
سببت المحاكمة الثانية للكيلاني في زيادة حدة التوتر بين القاهرة وبغداد،على الرغم من ان القاهرة ظلت تلتزم الصمت ازاء المحاكمة الى اوائل شباط 1959 ففي ذلك الوقت كانت العلاقات بين الدولتين قد ساءت كثيراً،لا سيما بعد ان قدم عبد الكريم قاسم اكثر من وثيقة تؤكد التعاون بين الطرفين منها برقية لصحفي اميركي كان يعمل مراسلاً لصحيفة نيويورك تايمس جاء فيها “يتزايد الشعور بالفزع هنا من احتمال قيام انقلاب او ثورة اخرى في العراق وقد علمت من المصادر ان ناصراً يؤيد الاتجاه المعارض لقاسم. وقد أيدت المخابرات الاميركية والبريطانية ذلك اذ لدى سفارة الولايات المتحدة ادلة قاطعة على ان المصريين يساندون الثائر القديم رشيد عالي الكيلاني بالمال والسلاح صد قاسم ” وفي مذكرة ثانية كتبت وكالة المخابرات المركزية …. الى وزارة الخارجية بتاريخ 25 ايلول 1958 تقول ” ان بؤرة الاختراق المحتملة في هذا الوقت بالذات للقيام بانقلاب ضد قاسم هو رشيد عالي الكيلاني المؤيد للجمهورية العربية المتحدة مع ذلك يبقى العنصر الاساسي لأي انقلاب هو الجيش”.