سارة عابدين
يبحث الفن الحديث في إطار تساؤلات مختلفة عن أسئلة الفن في الماضي، فالاهتمام بالموضوع لم يعد كما كان قديما، بل أصبح أكثر بالشكل، بغض النظر عما يحمله من مضامين أدبية أو درامية، بالإضافة إلى توق الفنان الحديث إلى صنع شيء جديد وليس محاكاة الواقع فقط، مهما تكن المحاكاة بارعة.
في تلك المنطقة الوسطى بين الاهتمام بالشكل والمضمون يقف الفنان المصري جورج بهجوري في معرضه الأخير في غاليري بيكاسو بالقاهرة.
يحاول بهجوري خلق عالم مواز، عن طريق تجارب متنوعة التقنيات يخلط فيها بين أنواع مختلفة من الفنون البصرية مثل التصوير والكولاج والكاريكاتير، بنزعة فنية تراوح بين التعبيرية، والتجريد، والفن الشعبي، وربما يأتي اهتمام بهجوري بالمضمون الذي يحمله العمل، من خلال عمله لفترة طويلة كرسام كاريكاتير، كعادة بهجوري يلاحظ المتفرج حضورًا كبيرًا لأم كلثوم في المعرض، كتميمة شخصية لبهجوري لا يستغني أبدا عن وجودها في أغلب معارضه الشخصية، وفي كل لوحة يتناول كوكب الشرق بزاوية بصرية مختلفة، تركز في أغلب اللوحات على تعبيرات الوجه، وحركة الأصابع، والمنديل الذي لا يفارق يدها أثناء الغناء، هذه العناصر التي تمثل جوهر شخصية أم كلثوم وعلاقتها بالمتفرج، بالإضافة إلى لوحات أخرى تجمع بينها وبين فرقتها الموسيقية تظهر فيها النزعة التكعيبية إلى حد ما. بالرغم من تعدد لوحات كوكب الشرق إلا أن الفيغرز وملامح الوجه لا تتشابه أبدا. وعن ذلك الأمر يقول بهجوري إنه يرسمها بأحوال مختلفة، كما يراها هو برؤية ذاتية لكل حالة، لا كما تبدو للجميع.
الكولاج في لوحات بهجوري
للكولاج والخامات المتعددة حضور كبير في لوحات بهجوري، فهو لا يتوقف عن التجريب والاستكشاف لتبدو كل لوحة كأنها معمل اختبار لألعاب وخامات جديدة، لكنها في الوقت نفسه شديدة المحلية، في أغلب اللوحات مثل قماش الخيامية المزين بالنقوش الإسلامية، والجلود والأقمشة السميكة، والكرتون.
لوحات الكولاج والخامات المتعددة تنقسم إلى قسمين مختلفين إلى حد كبير، فتبدو اللوحات التي يستعمل فيها قماش الخيامية ملونة وتراثية وشعبية، بينما بعض اللوحات تظهر فيها ثيمة القٌطب العرضية التي تشبه خياطة جرح طولي بقطب عرضية، ويستخدمها في أماكن متعددة من جسد الفيغر، الأمر الذي يحول اللوحة إلى مشهد كولاج تراجيدي، خاصة مع الأجساد الكابية، ذات الألوان المحايدة الباهتة، التي تبدو ملتصقة باللوحة، من دون ملامح واضحة.
اللوحات التي تحمل القطب تثير تساؤلات بصرية، وسيكولوجية عن معنى الجسد الإنساني، ورؤية الفنان له، تتداخل مع تساؤلات المتفرج عن علاقته بجسده، وذكريات كل شخص عن
“العامل المشترك بين أغلب لوحات بهجوري هو الملامس المختلفة في كل لوحة، نتيجة الخامات المختلفة”
تاريخه مع الألم الجسدي والنفسي، وتحمل هذه اللوحات أبعادا أكثر إنسانية واتساعا في التأويل.
يبقى العامل المشترك بين أغلب لوحات بهجوري هو الملامس المختلفة في كل لوحة، نتيجة الخامات المختلفة، التي تناشد حاسة اللمس لدى المتفرج وتثير بداخله استجابات عاطفية مختلفة، مثل الحنين إلى الطفولة، أو الخوف من الوحدة، لكن بالرغم من تباين الاستجابات، تبقى الملامس المختلفة التي يستخدمها بهجوري سببا في ديناميكية اللوحة، وتكوين علاقة شخصية مع المتفرج الذي تحرضه اللوحات على لمسها، لتبقى اللوحات بعد ذلك في ذاكرة العيون وذاكرة الأصابع.
المعرض يضم لوحات لمراحل مختلفة من حياة بهجوري الفنية، ويظهر الفارق بين المراحل، إذ تبدو اللوحات الأقدم أكثر كلاسيكية وتخطيطا، بينما اللوحات الأحدث أكثر تحررا من القواعد، تحمل النزعة الفنية البدائية، التي لا يمكن تعلمها، في حين أن كل البراعات الحرفية يمكن تعلمها. وهنا يتخلى بهجوري عن المضمون في سبيل الشكل والتجريب، وكان التعبير أكثر من خلال اختياره للألوان والخطوط، والاعتماد على تأثيرات الألوان والأشكال، نفسيا وبصريا، لتظهر تلك اللوحات خالية من التجسيم، وأقرب للتسطيح، وتظهر بها البورتريهات بأشكال مختلفة، إما بارزة جدا بحيث نشعر أننا نستطيع ملامستها، وإما غائمة وخيالية، تتفاعل مع اللاوعي الشخصي.
الجسد الأنثوي العاري
للجسد الإنساني خاصة الجسد الأنثوي العاري حضور كبير في لوحات بهجوري، ويراوح بين ضدين. إذ في بعض اللوحات يبدو مرغوبا وممتعا وحسيا، ويستعيد بهجوري من خلاله طاقة جنسية غير مقيدة، من خلال تكورات واستدارات تعيدنا إلى الصورة الذهنية عن جسم المرأة وإحالاته، تلك الصورة التي تمكننا من مراقبة العلاقة بين المرء والجنس والفوارق الدقيقة للجسد الأنثوي.
تظهر اللوحات انطباعات عاطفية قوية، مثل الإثارة أو الاشمئزاز، لكنها بالتأكيد تكسر النمط أو “تظهر اللوحات انطباعات عاطفية قوية، مثل الإثارة أو الاشمئزاز، لكنها بالتأكيد تكسر النمط أو النموذج الأصلي الراسخ في العقل عن الجسد الأنثوي”
النموذج الأصلي الراسخ في العقل عن الجسد الأنثوي، وتعبر عن وظائف نفسية متعددة المستويات، تتشابك مع وعي المتفرج، الذي مع مزيد من التأمل قد يجد أن مشاعر الإثارة الجنسية، هي في الأساس توق إلى الترابط الإنساني، لتنفتح مشاعر الشهوة الأولية، على مشاعر الحب. أو ربما يقود المشاهدين إلى تقدير أجسادهم واستكشاف معان أكثر اتساعا للجسد، خاصة مع استخدام بهجوري لأقمشة جافة وملامس خشنة في تشكيل الجسد، والتي يمكن أن تمثل استعارات مجازية للتشتت والتمزق وعدم قدرة الإنسان على التحكم في جسده.
استخدام بهجوري للخامات غير التقليدية أيضا ربما يشير إلى رفضه الواعي أو غير الواعي للقيم التقليدية والنظرة المجتمعية السائدة لجسد المرأة كسلعة يجب أن تتوفر فيها معايير الجمال المتداولة، لتختفي جسدانية الجسد بمعناها الحرفي في لوحات بهجوري وتظهر الأفكار التي يمثلها الجسد في عقل كل منا، تبعا لثقافته وجنسه ورغباته الشخصية.
المعرض لا يمثل حالة واحدة أو فكرة بعينها، لكنه بمثابة نظرة على أعمال بهجوري في فترات مختلفة، غير أننا نتعرف من خلاله على الخطوط الرئيسية لفن بهجوري، والمؤثرات المصرية التراثية، والأوروبية الكوزموبوليتانية التي أثرت في تشكيل رؤيته الفنية. ويبدو بوضوح أنه فنان محب للتجريب، لم يتخل عن روح الطفولة واللعب في أعماله، بالإضافة إلى كونه فنانًا غزير الإنتاج، لم يترك خامة لونية إلا وقام بتطبيقها على لوحاته.
*ضفة ثانية