مكاشفة بين المرأة والرجل في.. الرقص حتى الالم

يوسف عبود جويعد

تبدو للوهلة الأولى وأنا أقوم بتحليل رواية «الرقص حتى الألم» للروائية أفراح سالم، أن البؤرة الرئيسية التي تنطلق من خلالها الأحداث التي هي أداة مهمة من أدوات السرد، لم تكن ضمن الأدوات المستخدمة، إلا أن ذلك سرعان ما ينجلي عندما نكتشف أن بؤرة هذه الرواية تكمن في ثيماتها، وفي خطابها الإنساني، وفي الإنساق الثقافية المضمرة، عندما ندخل خضمّ معترك هذا النص المكتوب بطريقة السارد العليم الذي هو خطاب إنثوي يتعاطف مع المسيرة السردية لمبنى النص، لنجد أنفسنا مع مجموعة من النسوة اللاتي يحاولن الخروج من الشرنقة المظلمة التي وُضَعنَ فيها بسبب إختلال موازين العلاقة الإنسانية بالعاطفة النبيلة السامية، لأننا سوف نكتشف خطورة هذا الإنحراف الكبير الذي طرأ على تلك العلاقة وتحملت المرأة الوزر الأكبر منه، كون الروائية وُفِقَتْ في عملية تدوين بداية النص الروائي ليشكل العتبة النصية الأولى التي يشتغل عليها معظم صُنّاع الرواية كونه باب الدخول الأول لمتن النص الذي يكتشف المتلقي من خلاله أهمية النص السردي، ليساهم بزجه لخوض غمار المتابعة التي غالبًا ما تتم من خلالها عملية التمهيد لكشف معالم النص، ومن ثم لبداية انطلاق العملية السردية. لقد ظهرت بطلة الرواية امرأةٌ يكتنفها الغموض والتأمل والتساؤل، مما اضطرنا لمتابعة الأحداث لمعرفة سرها وهي ترتدي الخمار وترقص وسط الحي دون أن تعير أهمية لكلام الناس وتعديها المُخل للعادات على التقاليد المتّبعة في المجتمع الشرقي.

تحت خمار اسود
« ترقص وسط الحي بين الجموع التي راحت تتهافت، لتراقبها باندهاش، حاملة الدف في كف، تراقصه في حركة كفها الأخرى بكل خفة، بعد أن وضعت المسجل على الأرض، لتنطلق منه موسيقى لأغنية صاخبة لا تنفع إلا للرقص والجنون، اختفى وجهها تحت خمار أسود، لم يظهر منه إلا عينيها الواسعتين، لم تكن مهتمة بذلك الكم الغفير من الناس من مختلف الأعمار، كل واحد منهم ينظر إليها بطريقته الخاصة ويرسم خيالاته كما يشاء.) ص 7
الأمر الذي أثار لغط كبير بين سكان الحي، بين رافض مستاء غاضب من هذه المرأة مثل شيخ الجامع، وبين فرح منتعش تسحبه هواجس الغرائز والإلتذاذ لمتابعة الرقص ورؤية تلك المرأة الجميلة ممشوقة القوام وهي تستعرض جمال جسدها، مثل أحمد وهو أحد شخوص الرواية الرئيسية الذي سحره جمالها، وكذلك رشيد أيضًا هذا الرجل الوسيم الأنيق.
هذا المقطع من النص، سرعان ما يحيلنا إلى بنية العنونة «الرقص حتى الألم» العنوان الذي لا يشبه ما اعتدنا على سماعه من أن الطير يرقص مذبوحًا من الالم، لأننا سوف نشعر بأن هذا الرقص هو تفريغ كبير لشحنة ألم داخل معظم النسوة اللواتي تعرضنَ لظلم وتهميش وكبت وتضييق خناق ورصد ومراقبة وقتل للطموحات والآمال والمستقبل. وهكذا فإن هذه المرأة ترقص لاستخراج هذه الشحنة الكبيرة من داخلها، كما هو حال النسوة اللواتي دخلن ضمن متن هذا النص، وسنمر عليهنّ عبر رحلتنا هذه.
اللافت أننا نجد في هذا النص أن وحدتي الزمان والمكان، شكلتا هالتين ضبابيتين خاليتين من الملامح الواضحة. وهذا سنجده إفتراضيًا يتوضح تدريجيًا ضمن المسيرة السردية لنعرف أن المكان هو العاصمة بغداد، بينما بقي الحي دون ملامح مكانية معلومة لأسباب ربما ارتأتها الروائية ضرورية. ولكن لو أن هذا الحي كان بارزًا ومعلومًا لأعطى للنص دفقًا كبيرًا من الصدق الفني، أما الزمان فلقد افترضه النص بعد المتغيرات الكبيرة التي حصلت في البلاد.
وإذا ما انتقلنا الى خضم الأحداث التي دونتها الروائية بنفس وطواف متصلين وبدون فصول وعناوين، بل جعلتها فواصل مؤشرة بنجيمات لا تحمل إنتقالات كبيرة، فإننا سنجد أنفسنا أمام شخصية هند زوجة رشيد الذي يقرف من وجودها، ويعاملها بإستعلاء واضح ولا يضمر لها أي ود أو محبة، بينما المعروف إجماعًا إن الزوجة تحتاج من زوجها الإهتمام الذي يعزز كيانها وشخصيتها، ويمنحها دفقـًا من السعادةالتي لم تعثر عليها هند عند زوجها .
«- ألا تعرفين وضع بعض الألوان على وجهك القبيح هذا؟ وهذا البدن السمين! ألم تشعري بالقرف منه يا إمرأة؟ حاولي الخلاص من هذا الوزن الذي بات يوترني، وذلك الشعرالمبعثر، افعلي شيئـًا جديدًا، أبدلي تلك الملابس، تعلمي الرقص، الفرفشة، الضحك، دعيني أرى فيك جمالاً لم أعهده من قبل.» ص 12

تهميش واغواء
وتظل شخصية هند التي توقعنا من خلال سير الأحداث أن يطرأ عليها بعض التغيير، لكنها على العكس من ذلك بقيت مهمشة مطيعة لزوجها خوفـًا من ضياعها وضياع مستقبل أطفالها. ثم ننتقل إلى المهندسة «وسن» التي تعمل في إحدى الدوائر الحكومية، حيث تلتقي برشيد زوج هند لتنشأ علاقة بينهما دون أن تعلم ما يحمل هذا الرجل من أخلاق وسلوك منحرف، كونه لم يكتف بهذا التصرف المُشين مع زوجته، بل إنه استطاع إغواء «سمر» الشخصية الأخرى في الرواية، ليفقدها عذريتها. فتدور الأحداث بشكل منتظم وبإتقان واضح، من خلال إنتقالات الروائية بين الأحداث وتحريك هذا المحور وذاك، لنكون مع «عالية» زوجة شيخ الجامع، الذي لا يتسم بأي صفة دينية سوى المظهر، كونه يأخذ راتبها حال استلامها لهُ ولا يعطيها شيئًا منه. وتكبر دائرة الأحداث وتتسع، لنكتشف أن سبب أحزان «وسن» ومقتها لواقع الحياة، يتمثلُ بتسلط أمها عليها ومحاسبتها في كل صغيرة وكبيرة. وكذلك بسبب العلاقة السيئة بين أمها وأبيها التي وصلت لمرحلة ترك الأب للبيت بمن فيه، وزواجه من إمرأة ثانية ليتخلص من تسلط زوجته سيئة التعامل. فنشعر أن الأحداث تسير بوتيرة منتظمة وبإيقاع متناغم منسجم وفق السياق الفني من أجل توضيح الثيمات الأساسية التي أرادتها الروائية أفراح سالم، المتمثلة بمعاناة المرأة الشرقية من ظلم واضطهاد وتهميش وسلب لإرادتها وشخصيتها ومنعها من أداء أدوارها في الحياة كنصف خلاّق وشريك مع الرجل فيها.
شهدت أحداث الرواية حالات تأزم، منها سوء العلاقة بين هند وزوجها رشيد. كذلك الحال بين علياء وزوجها شيخ الجامع،وتأزم حالة أحمد الذي بقي يعيش حالة الوجد والهيام والبحث عن تلك الراقصة الجميلة التي سلبت لُبّهُ. كذلك سوء العلاقة بين رشيد ووسن.
« ابتسم رشيد، بقي ينظر إلى هاتفه بضع دقائق، أفاق من شروده على أصوات صياح وعراك، هرع من مكانه إلى مصدر الصوت ليشاهد علياء تتشاجر مع موظفة الحسابات، حاول أن يفهم ما سبب المشكلة، لم يجرؤ على سؤال أحدهم، فهم أن سبب الشجار هو قيام الموظفة بإعطاء الراتب الشهري لزوج علياء الذي أتى بكامل قيافته الدينية ومسبحته التي لا تسقط من يده، تذكر أنه رأى الشيخ المزعوم عندما كان يقف مع الموظفين وهو يقدم الأعذار ويشكو حال زوجته المريضة، حينها تمكن من إيهام الجميع وهو أولهم بأنه رجل تقي وورع يخاف الله». ص 114
تخلل هذا النص مفاجآت كبيرة ومهمة، فضلتُ عدم الكشف عنها لأترك للمتلقي متعة إكتشافها، حيث تعد المفاجأة داخل النص من المهمات الضرورية التي تساهم في شد وتماسك الاحداث، إضافة إلى أنها تُعطي فرصة كبيرة للمتلقي بمتابعة الأحداث لأنها تلهب حركة المسيرة السردية.

لملمة النفس
لقد عرفتُ أن هذه الرواية هي باكورة أعمال الروائية أفراح سالم، وإنها خطوة موفقة للدخول إلى عالم فن صناعة الرواية. إن اللقاء الذي تم بين وسن وعلياء لمراجعة وتحليل حياتهن وحياة المرأة الشرقية الذي أسهبت فيه الكاتبة بشكل لافت للنظر، يُعَدْ حالة من حالات المباشرة، كون سير الأحداث ودخول الثيمات وحركة الشخوص والأحداث وضحت الفكرة والغاية التي أرادتها الروائية منها، وكان بإمكانها أن تدع حركة الذروة تحتدم وتتصاعد أكثر لتصل الرسالة، ويمكن أن تمر بهذا التحليل لكن باختصار واختزال.
«مع هذا التطور الذي أساء الجميع استخدامه لتتراجع العقول إلى أدنى مستوياتها، تزداد النميمة والغيرة والحقد، مع حزني الشديد للحديث بهذه الطريقة يا وسن إلا إنني صُدمت، تبعثرت.. أحاول لملمة نفسي من جديد لأثبت لمن يرغب بكسري وشدي إلى القاع بأنني أقوى منه، سوف أدوّن كل صغيرة وكبيرة، كل ما قاموا به من حولي وما قمت به سيكون كتابــًا حافلاً بالمغامرات المثيرة منها والحزينة، سيقول بعضهم بأن البطلة تشبهني لحد ما، أو سيقولون هي أنا، لا يهمني ما سُيقال وما سيكون، قررت أن أخرج من تلك الشرنقة التي أختبئ خلفها خوفـًا من إعلان أنوثتي وكياني» ص 128
رواية «الرقص حتى الألم» للروائية أفراح سالم، تقدم لنا حياة المرأة العصرية وعلاقتها مع نصفها الآخر وما يشوبها من انحرافات خطيرة تسيء إلى تلك العلاقة الإنسانية النبيلة، وبالأخص العلاقة المشوهة التي نشأت بين الزوج وزوجته والإهمال الكبير الذي أحاق بالمرأة، حيث نكتشف إن الرجل الشرقي يجهل الكثير من هذا التعامل، فالزوجة عندما قررت مشاركته حياته سواءًا بإرادتها أم دون إرادتها، عليه أن لا يهمل وجودها وعليه أن يهتم بها من كل النواحي وأهمها علاقة الود والمحبة. أفراح سالم أيتها الروائية الواعدة أتمنى لكِ التوفيق والنجاح الدائم.

من إصدارات دار لارسا للطباعة والنشر والتوزيع لعام 2019

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة