علي حسن الفواز
العودة الى التاريخ ليست بريئة دائما، لاسيما مايتعلق بتاريخ الشعر، فهذا المجال الغائر والملتبس جدا، يقود العودة الى مقاربات، أو حفريات قد تضع الباحث أو الناقد أمام فخاخ ذلك التاريخ، بوصفه التدويني أو الايديولوجي، أو حتى بوصفه النقدي.. وحين يكون هذا الحديث المُستعاد على علاقة بحداثة هذا الشعر، فإن الأمر يكون أكثر غموضا وشغفا، ليس في سياق السجال، بل في التعرّف على طبيعة الحمولات الفكرية والرمزية والبلاغية والميثولوجية التي جاءت مع هذا الشعر، أو أنها اقترنت بسعة الأفق الذي صنعته القصيدة…
ومع ذكرى السياب الذي تحوّل الى أيقونة يتحول الحديث عن هذا التاريخ الى مجال مفتوح للمواجهة، أو لتبرئة السياب عبر التاريخ، أو لادانته، أو للبحث عن اسماء شعراء غامروا أو حلموا مع السياب، أو تورطوا بالسياسة وصراعاتها وضيق أفقها، وكلا الامرين له علاقة بالتاريخ أكثر من علاقته بالشعر، وبالمغامرة.
هذا المُعطى هو ما يجعل الحديث عن السياب، وكأنه حديث عن تاريخ خوفنا، وتطرفنا، وكل ما يخصّ قلقنا الوجودي والشعري، فضلا عن ما يخصّ الأسئلة التي تلامس جوهر لعبتنا الشعرية، وسرائر مغامراتها، إذ مازال كثير من الشعراء- منذ الستينيات والى يومنا هذا- يبحثون عن تفسير للمغامرة، وللسؤال الوجودي، وللوجوه التي تلبس الاقنعة، أو تواجه الاشياء- السلطة، المقدّس، الايديولوجيا- بنوع من التعرّي الانطولوجي، توهما بالتماهي مع مشروع الحداثة الشعرية، ومع أسئلتها الفارقة.. مثلما هي محاولة لمواجهة رعب التاريخ، حيث تتبدى لديهم كثير من الهواجس غير الواضحة عن مايخصّ تلك الحداثة وجدّتها، وعن ما يخصّ التوصيف غير البريء لجموح الشعراء الذين أطلقوا شرارة مغامرة الأولى بدءا من جبرا إبراهيم جبرا وأدونيس والبياتي وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا ويوسف الخال ومحمود البريكان وبلند الحيدري..
قصيدة السياب قد تكون جزءا من اللعبة، لكنها فرادتها تكمن في نزقها، اقصد نزق الشاعر المسكون بروح الاختلاف، فهي قصيدة تتسم بالبراءة والجرأة في آن معا، وهذا ماجعلها عرضة لمواجهة التاريخ، وللقراءة الضدية، مثلما جعلت من السياب ذاته أنموذجا للشاعر الذي سقط بسهولة أمام التاريخ، وبسذاجة تورطه بالايديولوجيا والعبث بأيقوناتها، وكأنه أراد أن يمارس حقا شخصيا، بالتمرد، والاختلاف والخروج عن النسق.
لم تشفع القصيدة الجديدة للسياب تورطه، وتمرده البرومثيوسي على التاريخ، إذ ظل تائها، معلولا، يبحث عن سؤاله الوجودي عبر القصيدة، الوجود بوصفه وعيا أو قلقا، أو تمردا، أو رغبة حميمة- غير واضحة الملامح- للتجديد، فهو الذي قال: مالفائدة إذا لم نكتب الجديد..حتى بدا الأمر وكأن هاجس هذا الجديد سيكون باعثا على المزيد من القلق، والمزيد من المفارقة، والمزيد من مواجهة مايعيشه من قلق إزاء رهابه الداخلي من الفقد والموت والتكرار والدوغما التي كانت تحاصر الواقع والأيديولوجيا..
ثمة من يقول: لم يعد من بدر شاكر السياب سوى قميصه، وسوى تلك الجذوة الأولى التي دفعته لأن يكون الشاعر الأضحية والبطل والأيقونة، مثلما هو السؤال عن ضرورة السياب في لحظتنا المعاصرة، لحظة(الهرب الشعري) فماالذي تبقى من السياب لنقرأه؟ وهل سنظل نستعيده بوصفه جرحا نجسيا في الجسد الشعري العربي؟ وهل سنجعل قميص السياب الشعري قريبا من القميص اليوسفي الباعث على الرؤية، أو قريبا من معطف غوغول السردي الذي تخرج من سرائره الأسماء والمواجد والحكايات؟
هذه الأسئلة المريبة تُفضي الى مقاربة وقائع مريبة، والى رؤى من الصعب تأويلها، أو وضعها في السياق المُحفّز على فعل القراءة، مثلما ستكون مدعاة لمواجهة إشكالات ثقافية معقدة، وأفكار تتعالق فيها أزمات الواقع، مع مؤثرات الصدمة المعرفية الانسانية، والتي يمثّل السياب بعضا من إرهاصاتها الشعرية، ومن تحولاتها الثقافية والسياسية والرسالية. ولعل علاقته ب(الشاعر) جبرا إبراهيم جبرا وبجماعة(شعر) وبأدونيس بشكل خاص تضع الكثير من علامات الاستفهام حول التشكلات المعرفية لتجربة السياب، لاسيما مايتعلق بالأساطير والمثيولوجيا، وهو ما بات واضحا من خلال قراءة السياب لكتاب(الغصن الذهبي) الذي ترجمه جبرا ابراهيم وإنسحاره بعوالم هذا الكتاب، فضلا عن ماكشفته رسائل السياب الشخصية الى أدونيس، وحوارهما حول وظائفية الاسطورة في الشعر، واهتمامه بموضوعة الخلق والانبعاث، وثنائية الحياة والموت، وهو ما إنعكس على عنايته بقراءة التجربة الشعرية الكبيرة ل(ت. س. أليوت) واستغراقه في عوالمه الكئيبة وأساطير الموت.
السياب وسؤاله الشخصي..
موهبة السياب تمردت على قرويته، وقلقه الشخصي دفعه للمغامرة، وللبحث عن إشباعات حسية لم يجدْ سوى اللغة فضاء لتصريفها، مثلما وجد في بيروت المدينة الفائقة نوعا من الاغتراب الثقافي والمدني والحسي، والذي أربكه كثيرا، وأثار شجنه، وبرغم خجله وشحوب عوالمه إلاّ أنه حمل سؤاله الفاجع باتجاه ترميم كل شيء يحوطه، بدءا من اللغة التي بدت أكثر تلوّنا، وأكثر غنائية، وإنتهاء بجسده المسكون بالتشوهات والعلل، إذ بات هذا الجسد يحضر بشفراته في الكثير من قصائده، بوصفه الجسد الضحية، والجسد المغلول للعزلة، والجسد العاطل، والجسد الذي يعوي، الجسد الذي يستعيد تموز وروح الخلق للإيهام بالمعنى الفائق للوجود واللذة والبقاء..
ماتبقى سوى القراءة
قراءة السياب بعد أكثر من نصف قرن لايمكن أن تكون بعيون وقحة، أو بأسئلة تبدو أكثر عدوانية في نواياها، بل نجد أنفسنا أمام لحظة وعي قرائي يفترض جاهزية أدواته لمعاينة عميقة لجوهر فكرة التحول الشعري، فإذا كنّا لانجد غضاضة في الحديث عن علاقة قصيدة النثر العربية بترجمة كتاب سوزان برنار الموسوم( قصيدة النثر من بودلير الى أيامنا)، والحديث عن علاقة تجربة مجلة شعر بعوامل الترجمة والبيئة وتأثير النزعة الفرانكفونية، فأننا سنكون أكثر تحفظا عن عوامل محددة ارتبطت بها تجربة السياب، إذ سنجد أنفسنا أمام مجموعة من المعطيات السياسية والثقافية والأيديولوجية و(الوطنية) تلك التي تحولت الى عملية عصف وجودي أخذت من حياة السياب الشيء الكثير، مثلما هي تجربته السياسية والحزبية بنحو خاص التي جرّته الى أقصى درجات القلق والصخب والتمرد والإسفاف أحيانا، خاصة في كتابه المثير للجدل(كنت شيوعيا)
عوالم السياب المُربكة، وطفولته الشائهة، وأحزانه الشخصية، وجدت مع موهبته الشخصية تداخلا غرائبيا، وحساسية غامرة، تكشفت عنها تدفقات شعرية كبيرة لم تُقرأ للأسف بأدوات ثقافية ناضجة تناسب أسئلتها، إذ كثيرا مايكرر النقاد توصيفاتهم النمطية في قراءاتهم تجربته بوصفها استباقا للتحديث وللتجريب الشعري الجديد، أو بوصفها نوعا من التنازع مع تجارب شعرية عربية أخرى بعيدا عن مقاربة حمولاتها الفنية العميقة..
فعل القراءة هو ماتبقى، لكنها القراءة المحايدة، القراءة(العاقلة) التي لاتخرج بأوهام نقدية، ولا ب(قرارات) تضع السياب في التقليد، بقدر ماتستحضره كأنموذج يتوهم الشغف البرومثيوسي في سرقة نار الآباء العالقين بالتاريخ..