تونس – ليلى عبد الله:
ارتبطت الكتابة بمواضيع عديدة تلامس من قريب أو من بعيد الإنسان بكل تجاذباته السياسية و الاجتماعية و النفسية, و كثيرا ما اشتغل الكتاب على تيمات حساسة فغاصوا في عوالم الإنسان الخفية و سلطوا الضوء على تابوهات كثيرة. انطلاقا من المحذور كتب الشاعر و الكاتب التونسي شوقي برنوصي روايته الأولى «مأزق تشايكوفسكي» أين اختار أن يتحدث عن المأزق الذي يعيشه بطله و الصراع النفسي و الاجتماعي الذي يحاصره من كل الجوانب.
* عرفنا شوقي برنوصي شاعرا لمجموعة بعنوان «كسرت المرآة بأجنحتي» سنة 2013، أما الآن نجدك تصدر أول عمل روائي لك. هل اختيارك خوض غمار الرواية نوع من التغيير أم أن الشعر لم يعد يتحمل القضايا التي يطرحها المجتمع؟
-دخلتُ عالم الرواية من خلال ترجمة بعض الأعمال الأدبيّة، خاصّة بذلة الغوص والفراشة للكاتب الفرنسي جون دومينيك بوبي التي نشرت سنة 2017، بعد صدور مجموعتي الشعريّة الأولى. اكتشفت أنّ الشعر لم يعد قادرا على تلمّس رهانات المجتمع الحقيقيّة، كما أنّي أحسست أنّ شعري لم يعد له مكان ضمن هجمة الشعراء المزيّفين الذين استسهلوا هذا الجنس الأدبيّ وصاروا يكتبون كيفما اتفق. الرواية أدب قادر على احتواء عديد الفنون، حتّى الشعر نفسه، وكلّنا نحتاج لصناعة الحكايات مثل حاجتنا للماء والطعام والهواء والنوم على حدّ قول بول أوستر. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ تكويني العلميّ له دور في تحوّلي من الشعر إلى الرواية. الرواية بناء متكامل ومترابط يتبّع قوانين مضبوطة لحبكها ومعايير دقيقة لقياس تأثيرها وتأثرها، لهذا السبب تتلائم الكتابة الروائيّة مع عشقي للنظم الهندسيّة وأحاول أن أكتب رواية تتوافق حركاتها مع الأجزاء والقطع التي تحوي.
*اخترت تيمة حساسة موضوعا لعملك الروائي ، أن تزج نفسك في ما يعد من التابوهات مع أول خطوة لك في مجال كتابة الرواية اليست هذه مجازفة ؟
-تقصدين المثلية الجنسية؟ أعتقد أن الرواية أتت لكسر المحرمات وتعرية حقائق أي مجتمع وتقديم قيم جديدة. تكمن المجازفة في كتابة رواية واضحة المعالم. من جهة أخرى، قد تمّ تناول كلّ الموضوعات في الأدب ونحن نعيد فقط إنتاج ما كتبه كتّاب قبلنا. يكمن الرهان الوحيد في محاولة تناول الموضوع بشكل مغاير. حاولت في كتابة روايتي مأزق تشايكوفسكي معاودة التفكير في كنه الشخصية الصالحة، وكيف أن رجلا مثقفا صالحا ومتفتحا يحاكمه مجتمع كامل لأنّ رغبته الجنسية تميل لبني جنسه. إنّها محاولة لنبش مأزق الهوية وقبول الاختلاف الذي ما نزال نتخبط فيهما في تونس، عبر رواية مثقفة وعالمية تجمع بين المتعة والمعرفة وجمع شخصيات مرجعية بين أسطرها مثل بيوتر تشايكوفسكي وأندريه جيد ويوكيو ميشيما.
* سبق أن شاركت في أحد مختبرات السرد برأيك هل تسهم ورشات الكتابة في إحداث تحول نوعي عند الكاتب و تصقل موهبته أم أن هناك عوامل أخرى تساعد على ذلك؟
-أشارك بالفعل في صالونات أدبيّة ومختبرات للكتابة منذ سنة 2011 إلى الآن، انطلاقا من صالون ناس الديكامرون ومختبر بيت الخيال وكلاهما أشرف عليهما الروائي والناقد التونسي كمال الرياحي، وضمّا كتّابا وقرّاء وفنّانين تشكيليّين. تمنح تلك الفضاءات الفرصة لعرض النصوص ونقدها وتقديم إضافات أو تحسينات عليها في جوّ حميميّ يخلق أبعادا أخرى لنصّك قبل أن يخرج للعلن. تحيل النقاشات التي تدار وسط تلك الصالونات إلى معارف وتيّارات فنيّة أخرى وتطلّع منها على كتّاب متميّزين في العالم، تسهم كلّ تلك المعارف في صقل موهبة الكتابة عبر هضم نصوص رائدة واستلهام أفكار وأطروحات جديدة. جاءت مأزق تشايكوفسكي نتاجا لكلّ هذا، وهو ما مكّنها من الحصول على المرتبة الثانية لجائزة مؤسّسة حورس الاسكندريّة للرواية سنة 2015 وعَدَلْتُ عن نشرها وأعدت كتابتها إلى أن وصلت إلى نسختها النهائيّة ونشرتها سنة 2018.
* ثقافة الطباعة والنشر في دور النشر العربية تختلف عن صاحبتها الأوروبية، فللمحرر في دور النشر الأجنبية الحق في تعديل النص و تصحيحه قصد حمايته من الهفوات و الزلات اللغوية. إلى أي مدى غياب دور المحرر في ثقافة النشر العربية يترك ثغرة سواء في الإصدارات الأدبية أو غير الأدبية؟
-تذكّرني ملاحظتك هذه بفيلم «عبقري» للمخرج البريطاني مايكل غراندايج، والذي يروي قصّة تفاعل ماكسويل بركينس المحرّر الأدبي مع الروائي الكبير توماس وولف وكيف تحمّل شطحات الكاتب ومزاجه المتغيّر والإسهاب في كتاباته بمزاجه الهادئ وذلك لأجل تقديم عمل أدبيّ ناجح وراق. لا يستطيع الكاتب التخلّي عن كلماته بكلّ سهولة، لكنّه برغم ذلك يحتاج عينا أخرى عقلانيّة تخبره أنّ جزءً من كلماته يجب حذفاه والتخلّي عنها مثل فأر ميّت بلا شفقة أو رحمة. بسبب غياب المحرّر الأدبي هنالك فرق كبير بين الروايات العربيّة والغربيّة. نجد في الرواية العربيّة كثيرا من الشحوم والأخطاء اللّغويّة التعبيريّة، وبعضها كبيرة الحجم وثقيلة ولا تصلح إلاّ أن تكون سلاحا أبيض! يعود ذلك لسببين: التسرّع في الكتابة للحاق ببعض جوائز المسابقات الأدبيّة؛ عدم جديّة أو حرفيّة دور النشر العربيّة التي تطلب أغلبها مالا من الكتاب وأعتبرها شخصيّا دور طباعة لا غير. تؤشّر مكانة الرواية العربيّة في فضاء الأدب العالمي المعاصر على قيمتها مقارنة بأدب أميركا اللاّتينيّة أو الإيراني وشرق آسيا وحتّى إفريقيا.
* نشهد زخما من الإصدارات الأدبية خصوصا الرواية التي سبقت كل الأجناس الأخرى هل تعتقد بأن هذا الأمر ظاهرة صحية تدفع بالرواية العربية نحو أفق جديد؟
– ظهور هذا الكمّ من الإنتاج الروائيّ في العالم العربي ظاهرة صحيّة. يرجع ذلك لازدهار حركة الترجمة ودعم مؤسّسات عربيّة لها مثل مشروع «كلمة» لهيئة أبو ظبي الإماراتية للسياحة والثقافة والمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت ودور نشر عربيّة أخرى. مكّنت هذه الحركة من إيصال التجارب الروائيّة الرائدة إلى القارئ العربي وتطوير تذوّق هذا النوع من الأدب، ما اسهم في خلق جيل جديد من الكتّاب اقتربوا من العالميّة مثل سعود السنعوسي، محمّد حسن علوان، ربيع جابر وآخرين. عمّقت الرواية العربيّة حاجتنا للتثاقف الداخلي-الداخلي كما يقول كمال الرياحي ومكّنت من التعريف بقضايا قطريّة محليّة كانت مجهولة سابقا، وأظنّ أنّ الرواية الآن تتزعّم حركة تغيير حقيقيّة في العالم العربي.