ثمة توجّه متجاوز للخصوصية بات يطغى على الممارسات الثقافية المتعددة، وعبر عملية تنميط شاملة تتعرض لها تدعوها الى اجراءات تسوية في النظر الى جميع مناحي الحياة المعاصرة. من التسلية حتى المنتجات والسلع الأنيقة، مروراً بالفن وبالفكر إلى العمارة وتصميم المدن. تبدو خلاله الثقافة في معناها وغايتها، وبوصفها نتاجاً تأملياً وتعبيراً إنسانياً حياً وحيوياً، خاضعة لحالة تبدل وتحول في العديد من اهتماماتها ووظائفها. وبأثر هيمنة الموضة، والصورة، والميديا، وإشاعة الأنظمة الافتراضية، وتكنولوجيا الاتصال، والوسائطية المتعددة بطابعها الالكتروني.
عدا، تأثير اجراءات مفهومية شديدة التعقيد والالتباس تداخلت في بنية الثقافة، مثل مابعد الحداثة، والعولمة، كمجموعة علاقات استبدلت منظومة تفسيرية كلية، أو ما اصطلح عليه بالسرديات الكبرى، كانت تظفي قدراً من المعنى الثابت على ماهو وجودي ومعرفي، بأنظمة فرعية، أو سرديات جزئية، مستقلة أو ذاتية التوجه، تلفت النظر إليها كأثر ثقافي قابل للاستهلاك والتجاوز، وتؤشر أغراضاً عملية تدفع للتكيف مع جميع الأشياء.
انتقالة جعلت من الثقافة تفصح عن رغبة في الانطواء على نفسها، والتمركز على أطروحاتها الخاصة. وغض النظر عن مبادئ كانت قد عدّت دعامات مؤسسة للفكر الحداثي. مثل التقدم، والحرية، والعقل، والنزعة الانسانية. خاصة بعدما تغيرت أطروحة الذات العارفة، والتي كانت تعد مفهوماً متعالياً وكياناً فاعلاً مرتبطاً بشرطه الوجودي والاجتماعي والواقعي، الى أطروحة الذات المغتربة، الفاقدة لمركزيتها، والمحايدة لما يجري من أحداث. حتى بات المعنى فيها لايشير تماماً الى الحقيقة بقدر ماهو نتاج علاقة بين الكلمات، حيث غدى معنى معولم وعابر لحدود ثقافته.
ان الثقافة ضمن هذا المجال غدت تعيش تطوراً غير متكافئ، ينطوي على إشكالية تعززها أساليب الإنتاج السريع، سواء في الأفكار أو المفاهيم. شأنها يشابه أفعال الحياة المعاصرة تماماً. والذي يسعى كل مافيها، كي يكون موضة، تستهلك وتتلاشى. انها جديدة فقط. تهمل الماضي وتخفي صلتها بالأفكار السابقة وتراكميتها. بل تدعونا الى التعامل مع العالم بأسباب غياب البعد التاريخي عنه بذريعة الاهتمام بأحداث الحاضر.
فالأطروحة الثقافية المعاصرة، أصبحت طاردة، تقصي العديد من المجادلات والأسئلة السابقة، أياً كانت حقيقتها وأهميتها، بافتراض مجال وحيد هو الجديد، المتحول، المتعلق بالراهن الذي لاينتج بدوره سوى المظاهر. وكأن جميع الأفكار والتجارب باتت تأتي من مكان غير متعين لتذهب إلى مكان آخر غير معروف. ان سعرها هو ثمن تخطيها وغيابها.
بأسباب هذه التوصيفات، أخذ العديد من النقاد يشير الى تشكل « ثقافة» نرجسية في محتواها. بدواعي شكليتها وتأنقها وسعيها للنجاح والاهتمام بالشهرة. وكذلك وقائيتها وحذرها وتماهيها مع نفسها وأدائيتها الخاصة. تحدوها رغبة ملحة في اعادة انتاج ذاتها من خلال فرديتها ومحتواها المناور واللانقدي.
في عصر يحيا هذا الاشتباك، مابين التحولات التي تصيب الاجتماعي والمتغيرات التي تطال الثقافي. كما في واقع مجتمع مختلف ومعرفة مغايرة، يفترضان وجوداً لم تتضح معالمه بعد. لابد من أسئلة تسعى لتأسيس مجال نقدي جديد وأفكار أكثر معاصرة.
سعد القصاب