السرد الشعري (على مشارف القصطور)

علوان السلمان

الشعر…فلسفة الوجود من خلال منطلق الرؤيا فيما وراء جدار الاشياء بتجربته التي تقتصر غايتها على الايحاء الذي يوسع من حدقة الرؤية مخيلتها الى عالم يستنطق ما وراء الوجود.
والشاعر فيصل هادي الدنيناوي في مجموعته الشعرية (على مشارف القصطور)، فيها يعتمد على الوصف النازع منزعا وجدانيا داخليا من خلال سرده الشعري المتباين، اضافة الى اعتماده الصورة البلاغية التي اخذت منزعها النفسي بتداولها الاحوال الوجدانية كمادة للتجسيد الايحائي ..
أطلقيني من أساري..أطلقيني
فالى م الهجر يغتال ســـنيني
أنا ما عدت اليك غـــير ذكرى
ثم أقسمت بأن لا تذكــــريني
أنا ماض..من ضحاياك ولكن
ربما أحيا..اذا ما تبعــــــثيني
فلأجلي سكتت كل طيـــور الر
وض حزنا وعزاء لشــجوني
أنا والــحب خلــــقنا في كيان
لست أحيا لا ولا يحــيا بدوني /ص3
فوجدان الشاعر وغنائيته امداه بانفعال متأن، اذ التوازن بين الفكر والعاطفة، فكانت طاقته الشعرية مرتبة بهندسة ايقاعية يجرنا جرس اللفظة الموسيقي فيها صوب واقعها الموضوعي، فتنقل متلقيها من محدودية المعنى الى لامحدودية الدلالة، باستخدامه ضمير المتكلم (أنا) بأسلوب الضمير الجمعي المكثف الذي يمثل حالة الاغتراب الذاتي، اضافة الى ذلك فان الشاعر يشتغل على البنية المكانية التي اتخذ منها المنتج(الشاعر) فضاء دلاليا منفتحا، فضلا عن هيمنة السرد الشعري في المعمار الفني باعتماد بداية نصية، فلحظة التأزم، تعقبها نهاية مفتوحة مع محاولة لاستنهاض كل ما في الصورة الشعرية الاليفة من طاقات لإيصال صوتها الى ابعد نقطة خارج الذات.
في منتصف الطريق المؤدية
الى محطة البنفسج
أتذكر أني كنت أردد اغنية ياس خضر
(يا ليلة من ليل البنفسج)
وأتذكر أني كنت أحمل بعضا من مؤهلات
مغني دور الخلافة العباسية في عصرها الذهبي
صوتا حسنا، أداء رائعا، أدبا ظريفا
لم أكن أعرف بأن الشمال تغير اتجاهها
فتصير جنوبا والجنوب ايضا
هي حرباء
وفجأة خرجت من سجن أوهامي
وأنا(بدوني)بامتياز
كملاكم قد سقط أرضا
بعد ان سدد له الحكم لا الخصم ضربة قاضية
أنا الآن لا اتذكر غير قول عنترة:
ينادونني عند السلم يا بن زبيبة
وعند اشتداد الطعن يا إبن الاطايب /ص62 ـ ص63
فالشاعر يعبر عن احوال يعانيها الوجود الانساني مرتبطة بذاته، لذا كان هو الذات والموضوع فقدم نصا تميز بعمق الرؤيا التي تخفف من وطأة الوصفية السردية، اذ انه منغمر في عالم النفس مع امتداد خيوطه في حركة الزمن بنمو يقترن بنمو الشاعر وتطور احواله النفسية والفكرية، فتوظيف الطبيعة والاشياء تكشف عن امكانية شاعر وفق في جعل صورتها تتلون بالوان مختلفة تبعا لمتغيرات الحدث ومواكبتها لتطوره فتغدو في حركاتها واصواتها وكأنها تحاكي الروح معبرة عن مشاعر ذاتية .. فضلا عن توظيفه التراث الشعبي عبر الحكاية الشعبية او الاغنية او تضمين الشعر للتعبير عن دلالات فنية يطمح الى تحقيقها كرمز او اغناء تجربة او لمنح النص ابعادا نفسية وجمالية مستفزة مع محاولة ايجاد معادل موضوعي لخدمة الحاضر واختراق الواقع الاجتماعي.
أسرج معانيك واعلُ صـــهوة الكلم
يا صاحب السيف والقرطاس والقلم
ما زال منشـــدهم يبــــكي على طلل
أقوى واقفـــر من حــب بـــذي سلم
ولانت مثل الشـــمس ان بــــــزغت
لم يبق ضـــوؤها ســــرا لمــكـــتتم
شلت يدا فاتك ما كان اغـــــــــدرها
ما انت في فعله يوما بمـــــــــــتهم /ص25
فالنص يمتاز باتساع فضائه الشعري الذي شمل الامكنة مع تنوع تقنيات السرد الشعري من وصف وحوار داخلي (حوار الذات) الذي (لا يقتصر على عكس الحالة النفسية للذات الشاعرة بل يتجاوزها الى ابعد من ذلك ..) .. اضافة الى تعدد زوايا الرؤيا السردية وانفتاح النهايات، فضلا عن ان الشاعر يصوغ مضامينه الشعرية ببنائية فنية صادقة تتمثل في المهارة المبدعة لانتقاء المفردة وتركيب الجملة وتوليد الصورة حتى ان بعض قصائده تبدو فن لغوي منظم وتراكمات من هندسة كلامية تخفي وراءها طاقة شعرية كامنة، فهو لا ينظر الى واقعه نظرة ذاتية حادة بل ينظره من خلال رؤية كلية شمولية وهو يحقق وحدته العضوية، اذ الافكار تنتمي الى موضوعها وترتبط فيما بينها نتيجة تطور التجربة الشعرية في النفس عبر الزمن الذي يحتضن الازمنة ونموها، فكان (المتنبي) الوعاء الذي افرغ فيه الشاعر معاناته وجسد تجربته على تحقيق انسانية الانسان، كونه فعل وجود بالنسبة الى الانسان الكلي، فالدنيناوي الشاعر عبر مجموعته هذه يستفيد من تقنيات السرد التي تمنح النص امكانية التواصل معه بانتظار تطورات الحدث الشعري، كون (الشاعر الحقيقي هو الذي يصل الى الجوهر في تجربته الشعرية والجوهر ينتمي الى الحياة).

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة