اشتباه طفيف!

نهى عبد الكريم

أسرابٌ من الغيم تهاجر إلى سماء تشرين الأوّل؛ إنّه شهر مكتظ بمحاولات الألفة وعلامتها المطر. لعلّ أكثر ما يصرفني عن تتبّع مصائر أوراق الشّجر تشكّلات الغيوم في البراح الشّاحب. أتعثّر مرارا إثر انتباهي المفرط لكن، “في العثرة حجر يرشدنا “. أستدعيها لأواصل الطّريق دون إصابات تُذكر فاستدعاء الشّعر أشبه بوضع ضماد على جرح.
بدأ سائق الحافلة النّزق زعيقه المعتاد: هناك راكب لمّا يدفع الأجرة!
أنصرف عنه إلى النّافذة الموصدة بإحكام؛ يبدو أنّ الكلّ مُوكَلٌ بك في هذه البلاد! يحتاج الوصول إلى العاصمة المحفوفة بالمكاره نصفَ ساعة خارج أوقات الاحتباس على تنوعها. أمّا خلال ذاك الضّيق، فيتضاعف الوقت. ولكنّ المسافة تتضاءل في ظلّ التّشاغل. هذا ما يجعل السّماء أداة سديدة لتولّي ذلك على أنّ حقولها الدّلاليّة مصدر شغب هنا؛ لذلك لا يجدر بالتّطلع نحوها أن يكون مطّولاً أو محموماً بالأسئلة.
أتوجّه بصميمي نحوها. إنّها تأخذ أشكالاً متباينة؛ أضحك من خيالي السّاذج إذ أشكّلها في هيئات مضحكة! كنت مستغرقة في هذا العبث اللّذيذ حين ترامت غيوم من طبيعة مختلفة لكنّها بلون رماديّ، ووجوه عدّة. كانت في أسراب، وتغصّ بشيء ما كذلك. لقد تسرّبت من انفجار على مقربة. وتكاثرت في الأعلى؛ إنّها تصعد بخفّة لا تُحْتَمَلُ رغم ثقل ما اقترفت. راحت تتغلغل وسط حشود الغيم حتّى بدت جزءاً حميماً منها.
كنت أرقب بدهشة كيف التأم نسيج السّماء. حاولت تتبع مسار الدّخان؛ لئلا أفقد حدوده. لم يتسنّ لي ذلك وما اكترثت الغيوم بالتّباين الشّاذ. تماهتا أمام ناظريّ في دوار واحد:
يتجاذبان القصائد في ملأ يسمح بكسور الوزن
الإيقاع يعلو حدوهما السّافرة: يرقصان
يشتبك المعنى
فتنوء المسافات … تلك الّتي تجعلهما (أنا)، و(أنت)
الغيمة الرّعديّة من أزعجها؟ لقد بدأت تفرغ أكياسها السّوداء الملآى بالحزن فوق رؤوسنا؛ أنا والحافلة، وسائقها اللّئيم الّذي ما زال يزعق بمزاج عكر: هناك راكب لمّا يدفع الأجرة!
أتساءل بينما أرقب الهطول: كيف ستكون البحيرات المُتشكّلة جرّاء هذا المطر؟ حالما نصل المحطّة التّالية سأبحث عن بركة ماء؛ لعلّي أعثر على شيء يدلّ عمّا حدث بين الغيم والدّخان. هل تضيع التّفاصيل حين تنتهي! ولكنّ الشّمس علت سقف العاصمة أكمله؛ فبدا لي أنّ الحكاية ستتبخر.
صراخ طفوليّ ينقر النّافذة بفرح حلو. التفتّ إليه بانتباه حاضر والحافلة لا تزال تجري. كان هناك أطفال يقفزون، ويتراشقون الضّحك في بقعة كبيرة ارتكبها المطر. ابتعدوا عنّي دون أن يوقفوا الحافلة ليسألوني: من أيّ غيمة كانت؟ وأتعبني أيضاً أنّني كبرت فلم يدعوني إلى اللّعب رفقتهم.
عاد زعيق سائق الحافلة قريباً وكثيفاً: ثمّة راكب لمّا يدفع الأجرة!
ارتبكت إذ وجدته يسدّ النّافذة بيديه اليابستين كالشّوك. نهضت من مكاني برائحة دخان واخزة تفوح منّي؛ لأخرج من جيوبي قطعة نقديّة مبلّلة تسدّد تكلفة الذّهاب والإياب!
هبطت من الحافلة، إذ وصلت محطّتي بينما أسراب من الغيم تهاجر من سماء تشرين الأوّل؛ إنّه شهر مكتظّ بمحاولات الألفة وعلامته الصّحو.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة