ساعة المطبخ

فولفغانغ بورشرت
ترجمة ماجد اعبيّس

تقدیم
ساعة المطبخ في قصة فولفغانغ بورشرت – التي تحمل العنوان نفسه – ترمز إلی فردوس مفقود؛ تروي قصة رجل یشعر بفرحة غامرة لأنه استطاع أن ینقذ ساعة مطبخ عائلته من دمار الحرب العالمیة الثانیة. ظاهرها سلیم، لکنها معطلة من الدخل. مع ذلك توقظ لدی البطل ذکریات من الدفء والأمان. بورشرت یسعی باستخدامه لغة غیر مزخرفة وتکراره – هذا کل ما تبقی، الفردوس، في الثانیة والنصف – أن یعرب عن إلحاحه في النص. بنیة القصة تنقسم من الناحیة الزمنیة إلی ثلاثة أزمنة، الحاضر ثم استعادة الماضي، ثم الحاضر مجدداً. «ساعة المطبخ» نُشرت لأول مرة في السابع والعشرین من شهر أغسطس/ آب عام 1947 في جریدة هامبورغ المحلیة.
فولفغانغ بورشرت كاتب ألماني، عاش 26 عامًا فقط. يُعتبر من أهم وأشهر كتاب أدب ما بعد الحرب، برغم قلة أعماله الأدبية وحیاته القصیرة التي قضاها في الحرب. الكثير من الناس في ألمانيا ما بعد الحرب یُعرِّفون أنفسهم بمسرحيتهِ «في الخارج أمام الباب» بالألمانية: ( Draußen vor der Tür) ويعتبرونها جزءًا من هويتهم. أعماله التي أنجزها في فترة ما بعد الحرب تعتبر أشهر ما کتب في ما يسمى بأدب الأنقاض أو الأطلال. واختیرت قصصه القصیرة کـ»الخبز»، «في هذه الثلاثاء»، «بلی الجرذان تنام في اللیل» و»الهِرّة كانت متجمدة في الثلوج» لتدرس في مناهج التعليم.
إهداء إلی عائلة الحطاب
لمحوه وهو قادم نحوهم من بعید، کان لافتاً للنظر. کانت له سحنة تشي بأنه عجوز طاعن بالسن، لکن خطواته کانت تظهره شاباً عشرینیاً. جلس علی المقعد بوجهه العجوز بالقرب منهم. وأَرَاهم ما یحمله بیده.
قال: «هذه کانت ساعة مطبخنا». ونظر إلى كل منهم وهم یجلسون علی مقعد تحت أشعة الشمس.
«نعم، وجدتها. هذا کل ما تبقی».

وضع أمامه ساعة المطبخ البیضاء بصفحتها المدورة ولمس بأصابعه أرقامها الزرقاء.
«لا قیمة لها بعد الآن، (قالها معتذراً)، أنا أعرف ذلك أیضاً. ولیست جمیلة بالمستوی المطلوب. إنها کالصحن لا أکثر، صحن مطلي بطلاء أبیض. ولکن أعتقد أن أرقامها الزرقاء تبدو ظریفة. طبعاً عقاربها من صفیح. والآن لا تعمل بعد. لا. إنها معطلة من الداخل. ولکنها ما زالت تبدو کما كانت دائماً، شامخة. ولو أنها الآن لم تعد تعمل».
مسح برؤوس أنامله علی أطراف صحن الساعة بحذر وقال بهدوء: «هذا کل ما تبقی».
لم یلاحظه الذین کانوا یجلسون علی المقعد تحت أشعة الشمس. کان ینظر أحدهم إلى حذائه والمرأة کانت تنظر في عربة طفلها. ثم قال أحدهم: «خسرتم کل ما لدیکم؟».
قال مسروراً: «نعم، نعم، تخیلوا، کل ما لدینا! هذه، هذا کل ما تبقی». ورفع الساعة نحو الأعلی أکثر، کما لو أن الآخرین لم یروها بعد.
قالت المرأةُ: «ولكنها لم تعد تعمل».
«لا، لا، لا تعمل. إنها معطلة. هذا أعرفه بالطبع! ولکنها ما زالت کما هي دائماً بالضبط. بیضاء وزرقاء»، وأَرَاهم ساعته مرة أخری. أکمل باضطراب: والأجمل، لم أخبرکم به إطلاقاً؛ المثیر یأتیکم الآن: تخیلوا، إنها متوقفة علی الساعة الثانیة والنصف، علی الثانیة والنصف بالتحدید. تخیلوا هذا؟
قال الرجل: «إذن قُصف بیتکم حتماً حینما کانت الساعة تشیر إلی الثانیة والنصف». ثم قلب شفته السفلی استیاءً: «سمعت هذا الکلام کثیراً، حینما تسقط القنابل، تتوقف عقارب الساعة. یحدث ذلك من وَقْع الحرب».
هزَّ رأسه بتریُّث ونظر إلی ساعته: «لا سیدي، لا. أنت مخطئ. لا علاقة لها بالقنابل. لماذا تتحدث عن القنابل باستمرار! لا. في الساعة الثانیة والنصف کان شیئاً آخر تماماً. ولكنك تجهله بکل بساطة. الحکایة الساخرة في واقع الأمر هي أن الساعة متوقفة علی الثانیة والنصف تماماً. ولیس علی الرابعة والربع أو علی السابعة. دائماً کنت أعود إلی المنزل في الثانیة والنصف، أقصد، في اللیل. تقریباً دائماً في الثانية والنصف. نعم، هذه هي الحکایة الساخرة».
التفت إلى الآخرین، لکن عیونهم ما کانت لتکترث؛ لا ینظر إليه أحد. لم یجد نظراتهم. أومأ برأسه للساعة: کنت حینها جائعاً بالطبع، ألیس کذلك؟ وکنت دائماً أدخل إلى المطبخ مباشرة. کانت تشیر إلى الثانیة والنصف دائماً تقریباً. وثم، ثم کانت تأتي أمي. کان باستطاعتي أن أفتح الباب بهدوء، لکنها کانت تسمع حسیسي دائماً. وحینما کنت أبحث في ظلمة المطبخ عن شيء لآکله، کان یشتعل الضوء فجأة. وأجدها هناك واقفة أمامي بسترتها الصوفية وشالها الأحمر. حافیة. حافیة القدمین دائماً. وکان مطبخنا مُبلّطاً. کانت تُفَتِّر بصرها وتغضّن عينيها، لأن الضوء الأبیض کان لا یطاق بالنسبة إليها. وأنها استیقظت لتوها من النوم کذلك. کان لیلاً بالطبع.
وحينها كانت تقول: «جئت متأخراً کعادتك!»، ولم تقل شیئاً أکثر من هذا. هذا فحسب. «جئت متأخراً کعادتك!»، ثم تسخّن لي العشاء وتعاینني وأكلي. کانت حینها تمسح رجلاً بأخری، لأن البلاط کان بارداً. ما کانت تلبس حذاء منزلياً في اللیل البتة. وکانت تجلس بالقرب مني حتی أشبع. وحینما أطْفِئُ الضوء في غرفتي، کنت أسمع صوتها وهي تجمع الصحون. کانت تفعل ذلك في کل لیلة. ومعظم الأحیان في الساعة الثانیة والنصف. کان ذلك واضحاً تماماً، إنها تحضّر لي الطعام في الثانیة والنصف لیلاً. كان واضحاً تماماً بالنسبة لي. نعم كانت تفعل ذلك دائماً. وما کانت تنطق بشيء أکثر من: «هل تأخرت كعادتك!»، ولکن کانت تقول هذا في کل مرة. كانت تقولها باستمرار. وظننت أنها سوف لا تتوقف من قولها أبداً. كان واضحاً تماماً بالنسبة لي. نعم، هذه كانت عادتها الدائمة.
لهُنیهة کان قد هیمن الصمت علی المقعد تماماً. ثم قال بهدوء: وماذا الآن!؟ ونظر إلى الآخرين، ولكن لم ينظر إلیه أحد. حينها نظر إلی وجه الساعة الأبیض والأزرق المدور، وقال بهدوء: الآن، الآن أعرف تماماً بأنها كانت الفردوس، الفردوس الحقيقي.
على المقعد، کان قد هیمن الصمت تماماً. ثم المرأةُ سألت «وماذا عن عائلتك!؟»، ابتسم بوجهها بارتباك وقال: آه، تقصدين أبَوَيّ؟ راحا کذلك، خسرنا كل شيء. کل شيء. ذهب کل شيء. تخيلي، كل شيء.
ابتسم بارتباك بوجه کل منهم؛ واحدا تلو الآخر. ولكنهم لم ينظروا إلیه. حینها رفع الساعة إلی الأعلی مرة أخری وابتسم: «هذه فقط، هذا کل ما تبقی. والأجمل أنها متوقفة علی الساعة الثانیة والنصف بالتحدید. علی الثانیة والنصف بالتحدید».
ولم یقل أي شيء بعد. ولکن کانت له سحنة تشي بأنه عجوز طاعن بالسن. والرجل، الذي کان یجلس بالقرب منه، کان ینظر إلی حذائه. کان یفکر باستمرار؛ بکلمة الفردوس.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة