الابن لمن يربيه.. أم لمن يلده؟

عبد السادة جبار

لم تزل قضية استمرار النوع تحمل تفاصيل إشكالية ازدادت تعقيداً في العصر الحديث بسبب تغير التفاعلات الاجتماعية نتيجة لتأثيرات التطور التكنلوجي والتحام واختلاط الشعوب والأجناس، إذ تعددت مفاهيم وتصورات الناس عن معنى الأسرة والوطن والجذور، وبالنتيجة بات من الصعب أن تتوحد فكرة إنسان ما مع آخر عن مفهوم الأصول والجذور وحفظ النوع الذي يشكل التناسل أصل وجوده، وبالرغم من انتشار التكنولوجيا والتطور العلمي وفرضه لشكل وطابع علاقات الإنتاج، إلا أن إشكالية النوع لم تزل مختلفة بدءاً من الرغبة في الإنجاب إلى التربية وصولاً إلى العلاقات الأسرية، فسكان القارات قد يتفقون على نظرية علمية معينة أو نظرية سياسية أو بعض الأفكار الاقتصادية، إلا أن مفاهيم الإنجاب والتربية والارتباط الاسري قد تختلف من مكان إلى مكان آخر، بل من أسرة إلى أسرة أخرى في البلد نفسه، الفيلم الياباني « Like father like son الابن سر أبيه» للمخرج المؤلف «كوري ايدا هيروكازو»، يتناول هذا الموضوع، إذ يعيدنا إلى تلك النظرية وذلك التساؤل الإشكالي:»الابن لمن يربيه أم لمن يلده؟»، وفكرة الفيلم تتلخص باكتشاف عائلتين ان ابن كل منهما هو الابن البيولوجي للأسرة الأخرى ولكن بعد مرور ست سنوات، أحداث الفيلم يمكن أن تقع في أي مكان وفي أي زمان، لكن النتائج والمعالجة تختلف من مجتمع لمجتمع آخر، المشكلة في اليابان غيرها في أميركا غيرها في إفريقيا وغيرها في العراق، فرسائل الفيلم غير قابلة للتعامل مع الواقعية بسهولة أو بحلول جاهزة وعامة، ويمكن أن نعدّها مأساة إنسانية عبر دراما جسدها المخرج بقدرة فائقة بما يتناسب مع هذا البلد الذي يهتم بالأصول على الرغم من تحقيقه نمواً اقتصادياً وتكنلوجياً وضعه على قمة البلدان المتقدمة بعد أن قفز من المرحلة الإقطاعية إلى الرأسمالية بفترة قصيرة قياساً بتلك الدول بالرغم من تعرضه إلى انتكاسات عسكرية، هذه الانتقالة السريعة هضم فيها أسباب التطور التكنولوجي، إلا انه لم يتجاوز تقاليده القديمة بما فيها موضوع حفظ النوع والروابط الأسرية.

سيناريو الفيلم
أسرة «ريوتا « المكونة من الأب مهندس تصاميم عبقري والأم « ميدوري والابن «كيتا» 6سنوات، كل شيء عند ريوتا يجب أن يكون منظماً وفي خدمة العقل المتقدم ويسعى لتوفير جميع أسباب الرفاهية لهذه الأسرة الصغيرة ومنها بيت فاره تتوفر فيه أسباب الراحة، والزمن يوزع على مهمات يوكلها لزوجته من أجل أن ينمو الطفل ليكون شبيه أبيه، ألعاب علمية، بيانو، التغذية، إلا أن الأب في شغل مستمر لا يكاد يجد فرصة ليقضيها مع الأسرة، يرسل له المستشفى الذي ولد فيه كيتا طلباً للحضور مع زوجته، يخبرانهما إنهم قد اكتشفوا بان كيتا ليس ولدهما البيولوجي، وان تبادلاً بالمولودين حصل بين أسرته وأسرة أخرى، وان ولدهما الحقيقي مع تلك الأسرة أيضاً منذ 6 سنوات، وكيتا هو الابن الحقيقي لتلك الأسرة نفسها، يشكل الخبر صدمة كبيرة على الزوجين يتلقاها كل واحد منهما بشعور مختلف، ريوتا يعدّ ان كيتا لن يشبهه أبداً لأنه بايلوجياً ليس من صلبه وبالتالي فهو ليس نوعه، والزوجة ميدوري تجد صعوبة بالغة في الاستغناء عن طفل قد ربته وتعايشت معه وعاش بوصفه ثالث أفراد الأسرة، إذ كان المسلي لوحشتها بسبب غياب الأب الدائم، وتزداد الهوة اتساعاً والمشكلة تعقيداً حين يكتشف ريوتا إن الأسرة الحقيقية لكيتا من الطبقة البسيطة» سايكي» صاحب محل لتصليح وبيع المواد الكهربائية لهم طفلان آخران إضافة إلى «ريوسي» الابن الحقيقي لعائلة ريوتا، ريوتا سيحتاج إلى زمن إضافي ليربي ريوسي مثلما يريد كما فعل مع كيتا، إلا أن أسرة سايكس ترفض التبادل السريع حرصاً على مشاعر الطفلين، في حين يفضل ريوتا التسريع؛ لأن مرور الزمن سيعقد المشكلة ويحاول أن يغري سايكي بتربية الولدين باعتبار أن وضعه الاقتصادي أفضل، لكن سايكي يتشاجر معه وتكاد أن تحصل قطيعة بينهما، إذ عدّها اهانة لأسرته لكن ميدوري تتدخل وتقدم اعتذاراً، وتتوصل الأسرتان إلى فكرة التطبيع التدريجي، غير أن الأمور تجري إلى ما لا يشتهي ريوتا إذ أن أسرة سايكي أكثر حميمية لوجود طفلين حيث يستشعر كيتا الوحشة في أسرته القديمة وطبيعة الأب سايكي الذي يقضي وقتاً جيداً للعب مع الأطفال على عكس ريوتا المنشغل دوماً بعمله، وهكذا يهرب ريوسي من أسرته الحقيقية إلى الأسرة القديمة ويزداد ألم كيتا ويرفض مقابلة ريوتا؛ لأنه تخلى عنه، وهنا يشعر ريوتا بالخطأ البالغ الذي ارتكبه بمعالجة المشكلة بتلك السرعة ويقدم اعتذاره الى كيتا لينتهي الفيلم من دون اتخاذ قرار حاسم.

المعالجة
يتعامل «هيروكازو» ،غالباً، في أعماله مع مواضيع اجتماعية تضع الواقع أمام تساؤلات عصرية لينشب الجدل، يركز في أطروحاته وأبطاله على الأطفال. ويجسد بهم نمط حياة متوسطة وبسيطة اجتماعياً. إلا انه في فيلمه الأخير، «الابن سر أبيه»، حاول أن يقارب حياة البرجوازي (كنمط عيش وليس إيديولوجيا)، مع نمط حياة الفرد الشعبي البسيط، وهو في الوقت نفسه يقارن بين السلوك المتوارث جينياً مع السلوك المكتسب من خلال التربية، هكذا نجد الفيلم يسقط بعض النظريات التربوية والنفسية؛ والتي تلتصق نظمها في أذهان كثير من الآباء حول تربية الأبناء على شاكلة آبائهم وكأنه ينتهي الى نتيجة ان المكتسب هو الذي ينبغي أن يسود في التربية، تكمن مقدرة هيروكازو في اختيار مستويين من الدراما. يدور الأول بشأن طبقية العائلتين المتضادتين: «ريوتا» المنتمي إلى النفوذ البرجوازي، و»يوكاري سايكي» المتواضع المهتم كثيراً بأسرته في الجانب التربوي إذ يمتاز بالحيوية والأريحية الشخصية إزاء حياته التي لايطمح فيها لأكثر من العيش المعقول. أما الثاني، فيتعلّق بخطوط برجوازية المسارات التي ينبغي للأسرة ان تسير عليها حيث كان ريوتا جامد ثقيل الدم، تهمه فكرة التفوق لكن يوكاري يميل الى المرح والتلقائية والديناميكية. شخصيتان متضادتان، نتابع مع تصاعد وهج المأساة يعالج هيروكازو فيها الموضوع بوعي تصوري واقعي رائع، حيث يشعرنا في بداية الفيلم بإيقاع بطيء وصور جانبية وخلفية تنم عن تلك البرودة في حياة أسرة ريوتا على عكس ذلك الدفء الذي تعيش به أسرة سايكي الذي شاهدناه من خلال الايقاع المتسارع والحركة الدافقة لتلك الأسرة، واضافة لأداء الممثلين الرئيسيين الرائع لأدوارهم، الا أن ما يميز الفيلم أيضاً ذاك الأداء المذهل لأبطاله الأطفال صغار السن الذين شكلوا جوهر الموضوع وقلب السؤال التاريخي الفلسفي ( الابن لمن يلده ..أم لمن يربية؟ ). بقي أن نقول انه تم ترشيحه للفوز بالسعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي عام 2013، حيث فاز بجائزة لجنة التحكيم. بعدها بدأ عرضه في العديد من المهرجانات الدولية (بما فيها تورونتو، سان سباستيان، فانكوفر، لندن)، وحاز على 18 جائزة ونال 38 ترشيحاً لجوائز أخرى.

فيلم «Like father like son»، تمثيل: فوكوياما ماساهارو، اونو ماشيكو، سيناريو وإخراج : كوري ايدا هيروكازو.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة