فرنسا والدعوة لحوكمة النظام العالمي عبر منتدى باريس للسلام

آية عبد العزيز
على هامش الاحتفال بالذكرى المئوية لانتهاء الحرب العالمية الأولى التي أودت بحياة 18 مليون شخص(1)، وتوافد نحو 70 من قادة العالم إلى العاصمة الفرنسية باريس، بينهم الرئيس الأميركي «دونالد ترامب»، والرئيس الروسي «فلاديمير بوتين»، والمستشارة الألمانية «إنجيلا ميركل»، والرئيس التركي «رجب طيب أردوغان»، والرئيس النيجيري «محمد بخاري»، ورئيس الوزراء الكندي «جاستن تردود»، ورئيس الوزراء الفلسطيني «رامي الحمد الله».
وفي ظل استمرار حالة التوتر الحاد بين الساسة الأوروبيين والولايات المتحدة حول ضمان وحماية أمن أوروبا والدعوة المستمرة من قبل فرنسا إلى إنشاء جيش أوروبي بمقدرات أوروبية، فضلاً عن الانتقادات المستمرة من قبل الرئيس الأميركي بشأن الانفاق العسكري الأوروبي المنخفض، الأمر الذي أدى إلى تعهد «ميركل» بزيادة حجم الانفاق العسكري وزيادة المساهمة الخاصة بحلف شمال الأطلسي.
يُقام «منتدى باريس للسلام» لمدة ثلاثة أيام ابتداءً من يوم 11 وحتى 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، وتضمن كلمات لقادة دول العالم عن إعادة بناء النظام العالمي، وقضايا الحوكمة العالمية وأهمية التعددية من أجل السلام(2)، ويتضمن حضور قادة من مختلف دول العالم بجانب ممثلين عن المنظمات الدولية الكبرى وجهات فاعلة من المجتمع المدني ويعرض المنتدى 119 مشروعًا.

ماكرون وإعادة هيكلة النظام العالمي
تستند فكرة المنتدى إلى المبادرة التي أطلقها الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون» في عام 2017، اذ ترتكز على ضرورة التصدي للتحديات والمخاطر الدولية التي تواجه العالم، ودعم العمل الجماعي في إطار نظام عالمي أكثر كفاءة وفعالية، إضافة إلى مشاركة جميع الأطراف المعنية في للوصول إلى حل أفضل للقضايا التي يواجهها النظام العالمي(3).
تكمن أهميته في أن يصبح مناسبةً سنوية لعرض المشاريع والأفكار والمبادرات التي تسهم في تحسين التعاون الدولي بشأن القضايا العالمية، ودعم سياسة الانفتاح في العالم ولكن وفقًا لمعايير الإنصاف والعدالة. من أجل إعادة هيكلة النظام العالمي بوصفه نظام متعدد الأطراف وليس قاصرًا على قوة دولية واحدة تمتلك أدوات القوة التي تمكنها من قيادة العالم.
يهدف «ماكرون» من هذه المبادرة إلى المضي قدمًا لإحلال السلام الشامل والعادل من خلال انتهاج سياسة الحوكمة العالمية لإدارة النظام العالمي، لتعزيز سبل التعاون الدولي في حل القضايا الدولية محل الخلاف والعابرة للحدود.
لذا فقد ارتكزت فعاليات المنتدى على مناقشة عدد من الموضوعات المتعلقة بالسلام والأمن، والبيئة، والتنمية، والمجال الرقمي، والتقنيات الحديثة، والاقتصاد الشامل. وعليه فقد تلقّت لجنة الاختيار التابعة لمنتدى باريس للسلام 900 ترشيحٍ تقريبًا من 116 بلدًا، واختارت منها 119 مشروعًا ستُعرض في خلال الدورة الأولى للمنتدى(4).

لماذا الآن؟
يأتي المنتدى بالتزامن مع تعالي الأصوات اليمينة والشعبوية داخل العواصم الأوروبية لاتباع سياسات انعزالية مغايرة للسياسات الاتحاد الأوروبي، مع استمرار مطالبة بعض الشعوب بالانفصال والاستقلال عن سيادة الحكومات التي تخضع لها، بجانب تراجع السياسات الأميركية المعتدلة في التعاطي مع القضايا الدولية، منذ تولي «دونالد ترامب» الرئاسة في 2017، حيث دعم فكرة «أميركا أولًا» لعزل واشنطن عن بؤر الصراع العالمية بشكل غير مباشر.
وفي هذا السياق جاء اختيار موعد المنتدى مع احتفالات الذكرى المئوية للحرب العالمية لضمان مشاركة أكبر عدد من قادة العالم في المنتدى، حيث يشارك كل من الأمين العام للأمم المتحدة «أنطونيو جرتيريس»، والمستشارة الألمانية بجانب الرئيس الفرنسي في إلقاء الكلمة الافتتاحية.
يأمل «ماكرون» قائد الدولة الفرنسية والضامن التقليدي للأمن الأوروبي من إعادة هيكلة النظام العالمي لصالح استقرار وضمان أمن الشعوب. فلم تعد القضايا الداخلية قاصرة على الدول ذاتها، ولكنها أضحت عابرة للحدود الوطنية تجلت في أزمات الشرق الأوسط التي أسفرت عن تنامي موجات الهجرة غير النظامية تجاه أوروبا، الأمر الذي استغله اليمين المتطرف للصعود في السلطة فكان أهم الموضوعات المثارة على أجندته الانتخابية.
لم تكن المرة الأولى التي ينادي فيها ماكرون بهذه الأفكار، فقد شهد منتدى الاقتصاد العالمي في يناير/ كانون الأول 2018 تحذيرات متتالية من قبل الرئيس الفرنسي حول أزمة العولمة بسبب «تركيز الثروة» و»اقتصاد الابتكار والمهارات» بعيدًا عن الطبقات الوسطى والعاملة التي تم تطويقها(5).

نحو إرساء نظام عالمي أفضل
يسعى المنتدى إلى إرساء قواعد عالمية مشتركة تسهم بتحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي العالمي من خلال دراسة بعض المشاريع المقدمة في المنتدى بشأن «الشراكة من أجل حوكمة إقليمية للمحيطات» التي تهدف إلى تعزيز إدارة أفضل للبيئة البحرية، و «مشروع السلام الرقمي» ، وهو عن مبادرة من قبل مايكروسوفت للمساعدة في إرساء أساس رقمي عالمي أكثر أمانًا.
لم تكن هذه الموضوعات وليدة اللحظة ولكنها كانت نابعة من التهديدات الهجينة التي تواجهها أوروبا في الآونة الأخيرة، تأتي في مقدمتها التهديدات الأمن السيبراني والفضائي، وهو ما تجسد في الحضور الكثيف لشركات التكنولوجيا الأميركية في المنتدى مثل مايكروسوفت الراعي الرئيس، كما شاركت جوجل وتويتر في المناقشات، علاوة على تقديم كل من جوجل و فيس بوك ثلاثة مشاريع.
فقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي أداة في يد القوى الكبرى تعمل على تحقيق أهداف قوى بعينها كما إنها تورطت في كثير من القضايا السياسية العالمية كان أخرها اتهام شركة فيس بوك بأخذ معلومات خاصة بالمستخدمين، وبيعها لأطراف أخرى.
وبالمقابل، بالرغم من اهتمام المنتدى بقضايا الدولية والتهديدات والتحديات التي تواجه القوى الإقليمية والدولية، إلا إنه تغافل عن بعض القضايا الخاصة بالحروب الوكالة في دول الشرق الأوسط، والبرامج الأسلحة النووية والصاروخية التي تتسارع فيها الدول لامتلاكها، فضلاً عن السياسة الحمائية الموجه للسياسات العولمة والانفتاح التي أدت إلى انتهاج الولايات المتحدة الأميركية سياسات اقتصادية أكثر انغلاقًا، تبلورت في فرض رسوم جمركية على شركاءها الاقتصاديين لموازنة عجز الميزانية وفي مقدمتهم الصين، مما أدى إلى تنامي التوتر بين الجانبين ورد الصين عليها بنفس السياسات.

دلالات منتدى باريس للسلام
دأبت فرنسا على البحث عن شرعية غربية يمكن إضفاءها على سياساتها الخارجية الخاصة وذلك منذ الستينيات والسبعينيات القرن العشرين عندما حاولت أن تكون صوتًا للعالم الثالث في الشرق الأوسط معدّةً سياستها الاستعمارية لما بعد الكولونيالية العربية جسرا بين أوروبا والشرق الأوسط، لذا يأتي هذا المنتدى كاستمرار للنهج الغربي الفرنسي في التعاطي مع القضايا العالمية بعيدًا عن الطابع الأميركي الذي يحاول الانفراد بالعالم.
ولذلك، فإن قناعة «ترامب» بأن الولايات المتحدة لا يتعين عليها التصرف بنحو مختلف وأفضل من الدول الأخرى أو تحمل عبئًا أثقل من الدول الأخرى هو شكل من أشكال إزالة الطابع الغربي عن السياسة الخارجية الأميركية.
وعليه تدرك فرنسا حقيقة أن الولايات المتحدة كانت تعيد تعريف مصالحها الأمنية بشكل غير مواتي للمصالح الأوروبية، فعلى الرغم من أن دبلوماسية الرئيس السابق «باراك أوباما» اتبعت عددًا من الأهداف العالمية مثل (محاربة التغير المناخي ومكافحة الانتشار النووي)، إلا إنها مارست سياسات مغايرة للأوروبيين تجلت في التوجه الأميركي نحو آسيا، والتدخل في أزمات الشرق الأوسط مما أثقل العبء على الأوروبيين.
كما إنه كان مقيدًا في استعمال القوة لحماية المصالح الأوروبية تجلت في الأزمة الأوكرانية والتدخل العسكري في ليبيا، وسوريا للتصدي للنظام، في مقابل «ترامب» الذي أعاد تعريف المصالح الأميركية بنحو أوسع دون موازنة مع مصالح الحلفاء(6).
ختامًا، بالرغم من أن «ماكرون» حاول انتهاج أجندة خارجية تقرب وجهات النظر بين المصالح الأميركية والطموح الأوروبي إلا إنه هناك حدود لما يمكن أن يفعله. في عالم يفرض فيه «ترامب» المنافسة والمفاوضات الثنائية، كما إن فرنسا مازالت تواجه تحديات أوروبية داخلية تعوق عملية التحدث باسم أوروبا كلها أمام واشنطن.

الهوامش:
1 – «فرنسا: عشرات من قادة العالم يتوافدون إلى باريس للمشاركة في احتفالات مئوية الحرب العالمية الأولى»،فرانس 24، 10/11/2018: http://cutt.us/ZXYNN
2 – أنظر «فرنسا: عشرات من قادة العالم يتوافدون إلى باريس للمشاركة في احتفالات مئوية الحرب العالمية الأولى»، مرجع سبق ذكره.
3 – متاح على الرابط التالي: https://parispeaceforum.org/fr/a-propos/
4 – «منتدى باريس للسلام: شاركوا في تقديم المشاريع»، الخارجية الفرنسية:https://www.diplomatie.gouv.fr/ar/politique-etrangere-de-la-france/paix-et-securite-internationales/article/forum-de-paris-sur-la-paix-participez-a-l-appel-a-projets-06-06-18#sommaire_1
5 – Célia Belin, «What the Paris Peace Forum tells us about France—and about the world»,Brookings, November 9, 2018: https://www.brookings.edu/blog/order-from-chaos/2018/11/09/what-the-paris-peace-forum-tells-us-about-france-and-about-the-world/
6 – Celia Belin, «Can France Be America›s New Bridge to Europe?», foreign affairs, 19/4/2017: https://www.foreignaffairs.com/articles/france/2018-04-19/can-france-be-americas-new-
المركز العربي للدراسات والبحوث

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة