عادل الأسطة
لما كتبت روايتي «تداعيات ضمير المخاطب» ورويت فيها عن (نينا)، كنت أروي ما ألم بي في ألمانيا.
لم يصدقني أحد في العام 1990 وما بعده. لا الألمان ولا الفصائل الفلسطينية وتساءلوا: من أنت حتى يتجسسوا عليك ويرسلوا لك فتاة لتوقع بك؟
الآن ليست المشكلة في صدق روايتي أو كذبها، وما عدت شخصيا أطلب من أي شخص أن يصدقني. ولم أعد أرى المشكلة فيما حدث معي. صرت أرى المشكلة في أدبيات الفلسطينيين معظمها. لتكن روايتي كاذبة، فماذا عن روايات أكثر كتابنا؟
هل أعدد الروايات التي أتت على لازمة توظيف اليهود فتياتهم للإيقاع بأعدائهم؟
ربما يجب، ابتداء، أن أشير إلى رسالة ماجستير أنجزت في جامعة حيفا بشأن الفتيات اليهوديات «المضيفات» ودورهن في قيام دولة إسرائيل. وربما وجب أن أشير إلى جدل جرى مؤخرا أجاز فيه بعض رجال الدين اليهود فكرة أن تسخر المرأة اليهودية جمالها لخدمة الدولة. وهذه ليست لروايتي فيها نصيب، وليس لروايات كتابنا أيضا فيها نصيب.
سهيل كيوان في روايته «بلد المنحوس» 2018، يكتب عن المرأة اليهودية التي توقع بالفلسطيني من أجل توظيفه لخدمة الدولة الناشئة. وقبل أن أخوض في هذا أود أن آتي على بدايات الفكرة في الأدب الفلسطيني.
أول رواية فلسطينية هي رواية «الوارث» (1920) لخليل بيدس، وقد جرت أحداثها في مصر بين 1914 و1918 ولم تقارب الاستيطان الصهيوني في فلسطين، ومع ذلك تستغل المرأة اليهودية جمالها، ومعها أقاربها لتبتز عزيز الشامي.
وأول عمل أدبي فلسطيني قارب الموضوع من منظور استعماري هو مسرحية محمد عزة دروزة «الملاك والسمسار» (1935) تقريبا. المسرحية لم تصل إلينا، وكل ما نعرفه عنها ما قاله صاحبها عنها. توظف الفتاة الصهيونية لاسترداد المال من الملاك الذي باع أرضه. وهذا ما لخصه إبراهيم طوقان في قصيدته «نعمة»
«وباذل هذا المال يعلم أنه/ يسلم باليمنى إلى يده اليسرى» – أي أنه يعطي المال للملاك، مقابل الأرض، ثم يرسل الفتاة إليه لتستعيد المال.
في مسرحية برهان الدين العبوشي «وطن الشهيد» (1947) يبدو الأمر واضحا. يجسد العبوشي ما أوجزه طوقان.
في ستينيات القرن العشرين كتب ناصر الدين النشاشيبي روايته «حفنة رمال» وتأتي على الفكرة نفسها. ترسل الوكالة الصهيونية سارة إلى ثابت لتغريه حتى يبيع أرضه، ولكن سارة تخبره بالحقيقة، فأبوها عربي، والدماء العربية تسري في عروقها. وفي روايته الثانية «حبات البرتقال» توظف الوكالة اليهودية الفتيات اليهوديات لخدمة الحركة الصهيونية، فترسلهن للنوم مع ضباط لجان التحقيق في جرائم النازية لتجيير النتائج لصالح اليهود والفتيات يرفضن القيام بالمهمة ويتساءلن كيف تفرط الوكالة بشرف الفتيات؟.
كم قصة من الواقع، أو كم رواية، أو قصة قصيرة يمكن أن نشير إليها أتى أصحابها على الفكرة ذاتها في أدب المنفى، أو أدب الأرض المحتلة كلها؟
في انتفاضة الأقصى، أعدم فلسطيني نابلسي لأنه أوقع به من خلال فتاة، فاضطر إلى التعاون مع الاحتلال، ومثله حالات كثيرة، ورواية حسام شاهين «زغرودة الفنجان» – وقد صدرت قبل سنوات قليلة – رواية تتحدث عن الإسقاط.
في رواية سليم خوري «روح في البوتقة «(1985؟) تلاحق فكرة الفتاة اليهودية المرسلة من «الموساد» تفكير الفلسطينيين.
وفي رواية أحمد رفيق عوض «مقامات العشاق والتجار» (1997) نلحظ الشيء نفسه، والحكاية تطول وقد تتبعتها في دراستي «المرأة اليهودية من حيث هي محبوبة في الأدب الفلسطيني»، وقدمتها ورقة علمية لجامعة فيلادلفيا.
آخر الروايات التي تظهر الصورة نفسها هي رواية سهيل كيوان «بلد المنحوس» 2018. يعود الزمن الروائي إلى ما قبل العام 1948، بعقدين تقريبا، وتتوقف الرواية مطولا أمام الأعوام 1948 حتى1951، ثم تحدث فجوة زمنية تقدر بعشرات السنين -1998- قفزة زمنية – لنعرف مصير بعض الشخصيات اليهودية.
ما يهمني هنا، ما يمس الفكرة المحورية لكتابتي وهي فكرة توظيف الحركة الصهيونية للفتيات لتحقيق أهدافها.
في رواية كيوان هناك أكثر من نموذج نسوي يهودي. هناك فتاتان يهوديتان هما (ريبيكا) و(ليئة) تقيمان في (وارسو) وتتعرضان للاغتصاب، ويدافع أخوهما عنهما فيقتل، وهناك (بات شيبع) التي ولدت في فلسطين، وهي الانموذج الذي يهمنا.
(بات شيبع) هذه تحب اليهودي (اوريا) وتخلص له، ولا ترغب في أي علاقة أخرى، وحين يبتزها الضابط (ايزاك/ راتشينسكي) ترفض، فهي مرتبطة بصديق، ولا ترضخ له إلا حين تعرف أن صديقها خانها في الحرب، حين اغتصب فتاة عربية.
كل ما سبق لا يأتي على الفكرة المحورية ولا يقاربها.
في السنوات الأولى لقيام الدولة العبرية تتشمس فتيات يهوديات على شاطئ عكا، وبعضهن يمارسن الدعارة مقابل المال. (بات شيبع) تتشمس لتوقع بالشاب العربي العكي «شكري عراف» عازف الموسيقى، وتطلب منه أن يدلك لها جسدها، ثم تحاوره فيكذب عليها ويدعي أن اسمه يوسي وأنه يهودي شرقي وتكتشف كذبه، وتنقل الحوار كله إلى الضابط (ايزاك) الذي لا يفوت فرصة الإيقاع بالمغرر به. يدعوه ويطلب منه أن يقبل بوظيفة معلم موسيقى ويهدده بفضح أمره إن رفض، ويتركه يعترف ويسجل اعترافه، والناس تشكك فيمن يقبل وظيفة، فهي لا تقدم مجانا. لا بد من خدمة مقابلها لصالح الدولة، وهكذا أوقعت (بات شيبع) بالعربي.
صحيح أن الزمن الروائي يعود إلى خمسينيات القرن العشرين، ولكن الزمن الكتابي هو2017.
أعتقد أن مقاربة صورة اليهود في رواية «بلد المنحوس» ومقاربته في ضوء صورتهم في الأدب الفلسطيني المكتوب في الأرض المحتلة 1948 موضوع يستحق. إن روايات سميح القاسم تبرز صورة مغايرة. ايلانة وروتي ونوريت لم يكن مرسلات للإيقاع بسميح وأمير ومأمون. إنهن كما في روايتي النشاشيبي ضحايا المؤسسة العسكرية.
هل تختلف ريتا محمود درويش عن (بات شيبع)؟
ريتا التي أحبها الشاعر تختار الجيش لتخدم فيه، فينفصل الشاعر عنها ويدركه الرحيل.
عن الأيام الفلسطينية