فلسطين تنتفض

رجب أبو سرية

قبل 42 عاماً، قامت إسرائيل بمصادرة آلاف الدونمات من الأرض الفلسطينية ذات الملكية الخاصة والمشاع ضمن مناطق تصنف على أنها ذات أغلبية سكانية فلسطينية، فردّ المواطنون العرب بإعلان الإضراب الذي شمل البلاد كلها من الجليل إلى النقب وذلك يوم الثلاثين من آذار، الذي تحول بعد ذلك إلى يوم وطني فلسطيني، وإلى حدث مفصلي في الصراع على الأرض بين الشعب الفلسطيني القابض على جمر دولة إسرائيل في وطنه المحتل منذ العام 1948.
وفي العام 1987، انتفض الشعب الفلسطيني في الأرض المحتلة منذ العام 1967، بعد أن قام سائق شاحنة عنصري إسرائيلي بدهس ستة عمال فلسطينيين على حاجز بيت حانون، لتستمر الانتفاضة حتى العام 1994، بتوقيع اتفاق أوسلو، وبإنشاء أول سلطة وطنية فلسطينية على الأرض الفلسطينية ما زالت تقارع الاحتلال في كل المحافل الدولية من أجل انتزاع الحقوق الوطنية حتى اللحظة.
الأرض والهوية ما زالتا هما محور الصراع مع العدو الإسرائيلي، الذي لا يتعلم الدرس جيداً، بحيث إنه كل فترة من الزمان يعيد تكرار إجراءاته الاحتلالية التبديدية الحاسمة، ظناً منه بأن الشعب الفلسطيني قد رفع الراية البيضاء، أو أنه قد فقد القدرة على المقاومة، حيث إن مصادرة الأرض الفلسطينية بذلك الحجم الفاضح عام 1976، جاء بعد أن تم تحييد الجبهة العربية عشية كامب ديفيد، وجاءت واقعة الدهس التي أشعلت الانتفاضة بعد إخراج الثورة الفلسطينية من بيروت عام 1982، أما ما يسمى «قانون القومية»، الذي يعد جزءاً من «صفقة القرن» سيئة الصيت والسمعة، فقد جاء بهدف ترسيخ إسرائيل كدولة يهودية، وفتح الباب واسعاً أمام نزع حقوق المواطنة المدنية والسياسية للفلسطينيين العرب من مواطني الدولة، وتحويل إسرائيل إلى دولة فصل عنصري.
هذا في الوقت الذي تغلق فيه إسرائيل، أمام حقوق فلسطينيي الضفة والقطاع والقدس، كل الأبواب أمام حل الدولتين لمنع إقامة دولة فلسطينية مستقلة، وهذا يعني تبديد الهوية الوطنية الفلسطينية وتوزيع الشعب الفلسطيني على دول الجوار، ومحاولة تحقيق ما عجزت إسرائيل عن تحقيقه منذ سبعين عاماً مضت.
الشعب الفلسطيني داخل الخط الأخضر، عاد مجدداً لاستخدام سلاحه الإستراتيجي الذي يستعمله عادة في مفاصل الصراع الحادة والمنعطفات التاريخية، وهو الإضراب العام، الذي يوحد كل أحزابه وقواه، ويظهر معدنه الأصيل، مجدداً بعث هويته القومية واضحة ناصعة، كرد صريح على محاولة اليمين الإسرائيلي المتطرف، تبديد تلك الهوية.
أول المواجهة، إعلان الإضراب الذي يذكر بثورات الشعب الفلسطيني حين كان يعم الإضراب ويشمل كل فلسطين من النهر إلى البحر، فلسطين الواحدة الموحدة، سنوات 1933، 1936، 1939، حين كان يستخدم الشعب العظيم الإضراب العام في مواجهة الانتداب البريطاني، الذي كان قد أطلق باب الهجرة اليهودية وقام بنقل الأراضي من العرب إلى اليهود.
وفي الحقيقة، إن الإضراب العام الذي حدث عام 1936 شكّل انموذجاً قياسياً من حيث أنه يعد أطول إضراب في التاريخ حيث استمر ستة أشهر كاملة، وهكذا فإن الذاكرة الوطنية تحتفظ بهذا السلاح الإستراتيجي الناجع، كلما اشتدت الأزمة، أو وصلت أحوال البلاد والعباد إلى الذروة من القمع والتنكر للحقوق العامة، فالإضراب الشعبي العام، يعني زج الشعب بكامله في أتون المواجهة، وعدم اقتصار المقاومة على النخبة المسلحة، كذلك يعني أن الشعب يقوم باستخدام الوسائل والأدوات غير العنيفة في المواجهة، ما يمنحه الدعم والإسناد الدولي.
الإضراب الذي بدأ في مناطق 1948، أمس، ومنذ أول يوم له، يشق في حقيقة الأمر، الطريق لكفاح وطني، ويعيد ترتيب معادلة الصراع مع المشروع الصهيوني بأسره، فهو أولاً يفتح ملفاً كان مغلقاً، بعد أن تركز المشهد الإعلامي وحتى السياسي، على أن الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي إنما هو محصور بين دولة إسرائيل وفلسطيني الضفة والقطاع والقدس، وأن سقف حله يتراوح بين دولة مستقلة على تلك الأرض وبين الحكم الذاتي لسكانها، وثانياً هو يوحّد أولاً نحو مليوني فلسطيني داخل الخط الأخضر، في جبهة واحدة، من أجل منع تحول إسرائيل إلى دولة فصل عنصري، ومع تقدم الإضراب وتحوله إلى ثورة مدنية/اجتماعية، قد يضيف للعرب من مواطني دولة إسرائيل فئات أخرى، منهم اليهود العلمانيون الذين تضرروا سياسياً مع ترسخ التطرف واليمين في الحكم.
ثم ثالثاً، يفتح هذا الإضراب البديل الثوري الحقيقي لفشل حل الدولتين، أمام طريق حل الدولة الواحدة ثنائية القومية، حين سيبدأ الشعب الفلسطيني في القدس والضفة وقطاع غزة بإسناد أشقائهم داخل الخط الأخضر، ومن ثم الانضمام لهم في دائرة الصراع والمواجهة، ومعروف أن الشعب الفلسطيني مثل كل شعوب الأرض قد يظهر داخله النزاع بين الإخوة في السياسة لكن مواجهة العدو الجماعية توحد صفوفه في كل مكان يتواجد فيه.
الإضراب الشعبي العام إذاً هو إستراتيجية وبرنامج كفاح وطني، يستند إلى تراث كفاحي مجرب، يجعل من فلسطين واحدة وموحدة، تنتصر لا محالة في نهاية المطاف، وهكذا دائماً يظهر شعبنا العظيم قدرته على اجتراح المعجزة، حين تشتد به نوائب دهر الاحتلال، وكما تحوّل يوم الأرض إلى مناسبة وطنية لكل الفلسطينيين، وكما صارت الانتفاضة الأولى طريقاً لكفاح الكل الوطني، سيكون هذا الإضراب طريقاً لخلاص الكل الفلسطيني، شرط أن يستمر وأن يتسع ويتواصل وأن ينخرط فيها تباعاً جميع الفلسطينيين، حيث ستفاجأ الدنيا كلها بأن الإضراب، سيضع حداً للانقسام بين «حماس» و»فتح»، وسيفتح الباب لوحدة ليس غزة والضفة فقط، بل جميع الفلسطينيين داخل الخط الأخضر وخارجه وفي الشتات، وإن غداً لناظره قريب.

جريدة الأيام الفلسطينية

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة