ترسيخ الرؤية الفنية في عودة البلشون

يوسف عبود جويعد

في مجموعته القصصية الثالثة (عودة البلشون) يؤكد لنا القاص عبد الكريم الساعدي, رؤيته الفنية الواضحة, في أسلوب تناوله للنص القصصي, وزاوية النظر التي اتخذها مساراً لترسيخ هذه الرؤية, والتي باتت السمة التي تميّز بها عن أقرانه من صنّاع فن القص, فهو لا يقدم للمتلقي المادة الخام في مبناه السردي, ولا يقدّمها أيضاً نص يتضمن الأدوات السردية لبناء القصة التي اعتدنا عليها في متابعتنا لهذا الجنس المهم والصعب, كونه فناً للتكثيف الصعب, وإنما يقوم وفق معالجاته لهذا السياق الفني إلى إدخالها لأكثر من مرحلة ولأكثر من نقله من أجل إنضاجها, فبعد أن يقتنص واقعة من الوقائع تصلح أن تكون مادة خامة جيدة, يقوم بإحالتها إلى فن صناعة القصة مستحضراً جميع الأدوات المطلوبة لهذا السياق, وعندما يجد أن النص لا يمكن أن يوظف كسرد اعتيادي خالٍ من أي انثيالات حسّية وفكرية ومشاعر داخلية متأثرة ومؤثرة لنفس الوقائع التي تدور أحداثها والتي تتطلب منه أن يسمو بها ويرتفع بها, ومن هنا تبدأ مهمته الأخرى في أن يستحضر ما يمكن له أن ينصهر مع النص ويتجانس ويتفاعل معه, من الانزياحات والاستعارات الصورية والرمزية التي من شأنها أن تساهم في إنضاج النص وجعله مختلف من حيث الشكل والمضمون وحتى الزمان والمكان والشخوص والأحداث, وهكذا فإنّ الأدوات المعتادة لصناعة النص القصصي تدخل بوتقة أخرى من المعالجات الفنية, تكون فيها اللغة الشعرية الحسّية هي المهيمنة, وهي أيضاً التي تقود دفة إدارة الأحداث, فيكون للنص عنده شكل جديد مختلف, تكون فيه اللغة هي السمة الغالبة في النص, ولكنّها لا تضرّ مسيرة العملية السردية, ولا تربك الأدوات السردية المستخدمة, ورغم إحساسنا بأنّ فضاء النص يحمل هذه السمات, وأن الوصف والحوار المستخدم في هذه النصوص يكون منضوياً تحت سطوة تلك اللغة العالية, وأن الأم التي هي من جنوب العراق تتحدث بذات اللغة, والرجل البسيط, والمرأة غير المتعلمة, والفلاح والجندي, ومنضوياً أيضاً تحت سطوة الحسّ الشعري الذي يجتاح السرد بانزياحاته وصوره التعبيرية ورموزه التي تنتمي حتماً إلى متن النص, أقول مع هذا كلّه فأنه استطاع أن يكشف لنا الوجه المضمر لتلك الشخصيات, حيث إنّنا نراها تنتمي لبيئتها, ولطبيعتها وسلوكها ولهجتها, بالرغم من هذا الاجتياح الكبير للنص, فهو يجد أن الوقائع التي دخلت في متن هذه النصوص لا يمكن لها أن تنضج إلّا بهذا الأسلوب, وهذا التغليف المركب, حيث نجد أكثر من غطاء فني يكسو فضاء النص, كون أن الأحداث التي تدور في متن هذه النصوص, لا يمكن لها أن تصل إلى المتلقي كما يريدها, إلّا إذا دخل إلى عمق تأثيرها, ودخل قاعها, وغار في إعماقها ليحدّثنا من هناك, من حيث البؤرة التي تأثر بها, وأرادها أن تصل إلينا.
وما المستهل الذي يقدمه لنا القاص لمقولة (محمد الماغوط) إلّا تأكيد واضح لرؤيته الفنية التي أرادها
لقد…
( أعطونا الأراجيح وأخذوا الأعياد )
فلا يمكن لتلك الأراجيح أن تمنحنا السعادة والمرح والفرح, دون أن يكون هناك عيداً يكمل هذه المسرات, المراجيح دون عيد عالم موحش حزين, لذا فإنّنا نجد هالة الحزن, والضياع, والتيه في الدروب الموحشة, وفقدان الأحباب, والحروب, والكوارث, والانفجارات, والغربة, كما أكّد في أكثر من نص كما في حالة الرجل الذي يصل إلى خريف العمر, ويملأ الشيب شعره. والتداعيات الحسّية الشعرية, ممزوجة بدهاليز الذكريات الساكنة في الذاكرة. في قصة (أيقونة الدفء) نرحل مع معطف وهو يسكن بيوت الأغنياء, وبيوت الفقراء, ويتنقّل بين هذا وذاك, وقد دبّ فيه الحياة من أجل أن يروي لنا حكايته, وأخيراً ينتهي إلى أشلاء في إحدى الانفجارات.
( – من يجمع أشلائي المبعثرة في مسارب القمامة ؟
لا أحد يسمعني, الأماني تلوذ بالفرار, ثمة قوارض تنتظر بقاياي ) ص 12
أما قصة (توهم) فأنها تدعونا إلى متابعة بطل هذا النص, الذي بلغ به الكبر عتيا ولم يحمل إلّا الذكريات, عن حب وامرأة, وعندما يلمح امرأة يحسّها هي تلك التي لا زالت تعيش ذاكرته, مع التداعيات والأفكار ولغة الشعر العالية نكتشف أن هذه المرأة التي يتبعها ليست هي الحبيبة.
( أخرج مسرعاً, أشقّ صفوف المارة, أتبع رائحتها, أرهف السمع لحفيف أجنحة الشوق, أقترب منها, أقد ثوبها من خلف, تلتفت, يتقلّص وجهي خجلاً, تصفعني, كنت محتاجاً للبكاء, لم تكوني أنتِ, كانت امرأة أخرى .) ص15
أما قصة ( دمع الأراجيح) فأنّها تحكي لنا, وبذات السياق فاجعة انفجار الكرادة
( خلف ظلال موت شاخص على رصيف العيد, بينما الأراجيح وحدها ظلّت باكية, تهرق دمعها, تنشد النواح حتى مطلع القيامة .) ص 20
ملامح الشخصية وبيئتها
وتتوضّح لنا ما أشرنا إليها سلفاً, حول وجود ملامح الشخصية الواقعية وصدقها وبيئتها, رغم سمو المبنى السردي وعلو اللغة, إذ نكون في قصة (تحوّل) مع ضمد الفلاح, الذي يحبّ متابعة الطيور, وانتظار ظهورها في مواسم عودتها من هجرتها, ويتمنّى أن يكون واحداً منها, وتكون تلك الملامح مضمرة إلّا إنّها واضحة لدينا, وكذلك نجد في هذا النص هذا التشارد الذهني, والتركيبة الغريبة التي وظفها القاص في عملية تمويه المتلقي, والذي سوف نتابعه في هذا المقطع من النص, بعد أن يحسّ أنّه أصبح طائر خضيري, وصار له ريش وحلّق بالفضاء إلّا أن صوت أعاده إلى واقعه ( – ضمد , ياضمد الخضيري …
يلتفت ناحية الصوت, شبح ينتفض من قبره, يحوم حوله, يفزّ مرعوباً, يصرخ بأعلى صوته, أسراب الطيور تضرب سطح الماء بأجنحتها, تفرّ فزعة, فتطير بعيداً, تختفي في أعماق الهور, ضمد ترتعد فرائصه, يطلق ساقيه للريح تاركاً أسماله على ضفة النهر, وبلمح البصر يختفي بين أكمات القصب والبردي بلا عودة , لا يدري أصار طائراً أم أصبح طائر الخضيري ضمداً؟) ص 23.
في هذا المقطع الأخير من نهاية هذا النص, نجد أنّ المتلقي ظلّ في تيهان ذهني غريب, وهو يشحن الذهن متسائلاً, هل أصبح الطائر ضمداً, أم أن ضمد هو الطائر. أمّا قصة (عذراء شنكال) فهو نص يتناول الكارثة لأبناء الطائفة الإيزيدية وماحدث لهم من كوارث, وسبي النساء واغتصابهن, إلّا أن تلك الفتاة ظلّت عصية على الدواعش, ولم يستطع أحد اغتصابها, فأطلق عليها عذراء شنكال (سنجار)
تلتفت هامسة :
– أريد أن أسرّك بأمر لا يعرفه أحد, فهل تصدقيني ؟
– نعم حبيبتي سأصدقك
– أنا ماريا, ما زلت عذراء ) ص 35
ونجد في قصة (خريف المهرج) وبالرغم من أنها مستوحاة من حكاياتنا الشعبية موروثنا, إلّا إنّها تتلائم وواقعنا, كونها تحكي لنا عن حالة ما زالت قائمة, عندما يكبر المرء يستغنون عن خدماته, أما قصة ( عودة البلشون) فأنها تحكي لنا من الداخل من بؤرة الالم فاجعة موت الطفل الفلسطيني عبد الله عيسى, الذي ذبحته يدّ الارهاب بدم باردة من قبل أعداء الحياة. ( البلشون : طائر يعيش بالقرب من المياه , يمتاز بطول سيقانه ورقبته , ويطلق على البلشون الابيض (مالك الحزين ) ص 49
كما نجد ضمن هذه لمجموعة القصصية نصوصاً اشتركت في استقدام شخصية رجل كبير السن, وصل خريف العمر, ترافق العملية السردية هالة من الأسى والندم, وأشياء أخرى ترافق هذا العمر, لكنّها اختلفت من حيث الثيمة والأحداث والشكل والمضمون وهي, قصة( غزوة الحرمان ) و(التكوين) و(عطب) و(رجل سيء الحظ) و( عندما يرقص زوربا) و (صمت) و (ثقب المرآة) و (عزلة) و(ندم) و (حنين النوارس) و (آسف .. حدث سهواً), ربما يعود ذلك إلى التشابه والتقارب في العمر, وعزمه على تقديم مثل هذه الشخصيات التي يتمكن من استدراك مكامنها والتعبير عنها بشكل أكثر صدقاً, أمّا قصة انتظار فإنها تروي لنا حكاية موت الأم.
( عودة البلشون) للقاص عبد الكريم الساعدي, هي مجموعة ثالثة للقاص, يؤكد من خلالها رسوخ رؤيته السردية ومعالجاته الفنية الجديدة, والتي هي أدوات مضافة إلى أدوات السرد التقليدية.

من إصدرات دار أمل الجديدة – سوريا دمشق – 2018

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة