أناتول كالتسكي
تثير العقوبات التي أعاد الرئيس الأميركي دونالد ترامب فرضها على إيران سؤالين على قدر عظيم من الأهمية وليس لهما إجابات مقنعة. فأولاً؛ هل سيجعل هذا التصرف العالَم مكانا أكثر أمانا -كما يزعم ترامب- أم إنه سيزيد زعزعة الاستقرار بالشرق الأوسط، ويقوض أي جهود تبذل مستقبلا للحد من انتشار الأسلحة النووية، كما يزعم أغلب الخبراء الجيوسياسيين الذين لا توظفهم مباشرة أميركا أو إسرائيل أو السعودية؟
وثانيا؛ هل ستكون الجهود الأميركية لإرغام الشركات الأجنبية على احترام العقوبات التي تفرضها واشنطن على إيران شرسة بقدر خطاب ترامب المولع بالقتال؟.
وبطبيعة الحال؛ ربما يتبين أن العقوبات ضد إيران مجرد بادرة فارغة. فعلى حد تعبير سفير صيني سابق بإيران: «من الواضح أن دبلوماسية ترامب طوال أكثر من عام (بدءا من اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية، واتفاق الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ، واتفاق باريس المناخي، إلى القضية النووية بشبه الجزيرة الكورية، والحرب الأهلية السورية؛ ينطبق عليها المثل القائل: أسمع جعجعة ولا أرى طحنا».
ومع ذلك؛ يظل من المستحيل الإجابة عل السؤال بشأن الحرب والسلام؛ فبعد 15 عاما من الفوضى بالشرق الأوسط التي أطلقتها حرب العراق (غزو العراق) 2003، استوعب العالَمُ درسا واحدا لا جدال فيه: لا أحد بالبيت الأبيض، أو وكالة الاستخبارات المركزية، أو الموساد، أو أجهزة الاستخبارات السعودية، لديه أدنى فكرة عما قد يحدث في المنطقة الآن.
من الصعب أيضا الإجابة على السؤال التجاري، ولسبب أبسط: فلن يكون المدى الحقيقي لفرض العقوبات واضحا حتى المراحل الأخيرة من «فترة تخفيف النشاط» التي تمتد لستة أشهر، والتي تنص عليها الضوابط التنظيمية الأميركية الجديدة لتفكّ الشركات ارتباطها بإيران.
ولكن في هذه المرحلة المبكرة من المواجهة بين الولايات المتحدة وإيران؛ ينشأ سؤال اقتصادي آخر أكثر أهمية: على أي نحو قد تؤثر العقوبات الأميركية على سعر النفط؟.
وللوهلة الأولى؛ تبدو الإجابة أوضح من أن نكلف أنفسنا عناء المناقشة: فمن المؤكد أن سعر النفط سيرتفع مع تسبب العقوبات في الحد من إنتاج إيران وصادراتها من النفط، في حين يستعد البائعون لحرب محتملة، لكن الأسواق المالية لديها عادة مقلقة: فالتنبؤات التي يعتبرها المستثمرون واضحة تماما كثيرا ما يتبين أنها كانت مخطئة.
وقد يتبين أن التوقعات بشأن أسعار النفط حالة مماثلة، لعدة أسباب: فأولاً؛ أسعار النفط الآن أعلى بنحو 70% فعلا عن مستوياتها في الصيف الماضي، وكانت التوقعات بفرض عقوبات أميركية على إيران محركا مهما لهذه الزيادة. ويُعَد «الشراء عند الشائعة والبيع عند الخبر اليقين» من مبادئ المضاربة المالية الثابتة على مر الزمن.
وعمليات الشراء الأخيرة غير المسبوقة لعقود النفط من قِبَل مضاربين غير تجاريين في أسواق العقود الآجلة في نيويورك ولندن؛ تشير إلى أن العقوبات ربما تكون داخلة فعلا في حسبان السعر الحالي، إذ بلغ سعر البرميل من خام النفط برنت 78 دولارا.
ولم يرتفع هذا السعر فوق مستوى السبعين دولارا قط منذ عام 2014، عندما أدى الارتفاع المفاجئ في إنتاج النفط الصخري في أميركا إلى انهيار أسعار النفط. ولا يزال التسليم الآجل للنفط لعام 2020 يكلف أقل من 70 دولارا، مما يخلق حالة غير عادية في الأسواق تسمى «السوق المقلوبة العميقة»، والتي لم تُر منذ خريف 2014، وكثيرا ما تفرض انخفاضا حادا في الأسعار.
وإذا انتقلنا من ظروف المضاربة إلى أساسيات إنتاج النفط؛ فإننا نجد أنه ليس واضحا على الإطلاق ما إن كانت العقوبات قد تؤدي إلى تقليص صادرات إيران بالقدر الكافي للتأثير على التوازن العالمي للعرض والطلب.
فبرغم تضاعف صادرات إيران تقريبا -بعد رفع العقوبات السابقة عام 2015- من 1.5 مليون برميل يوميا إلى نحو 2.5 مليون برميل حاليا؛ فإن أغلب هذا النفط كان يباع للصين والهند وتركيا، وجميعها من المرجح أنها ستتجاهل العقوبات الأميركية أو تتحايل عليها.
أما الجزء المعرَّض للخطر حقا من تجارة النفط الإيرانية فهو لا يتجاوز 750 ألف برميل، ترسل يوميا إلى الاتحاد الأوروبي وكوريا الجنوبيةواليابان، وقد وعد الاتحاد الأوروبي بحماية تجارته مع إيران.
وإذا ارتفعت أسعار النفط بنحو أكبر خلال «موسم القيادة» الصيفي الذي يبدأ في أميركا الآن تقريبا فسيلوم الناخبون ترامب، وقد يعاني الجمهوريون في انتخابات التجديد النصفي في الكونغرس، وخاصة في ولايات الغرب الأوسط المرُجِّحة. وعلى افتراض أن ترامب يجد من المناسب سياسيا الحد من ارتفاع أسعار النفط؛ فمن المتوقع أن تقدم له القيادة السعودية أي قدر يطلبه من الدعم».
ولكن حتى لو تعذر هذا إلى حد الاستحالة؛ فإن قدرا كبيرا من النفط الإيراني -الذي يتدفق الآن إلى أوروبا أو اليابان أو غير ذلك من حلفاء أميركا- سيجري تحويله من دون أدنى شك إلى دول مثل الهند والصين، وهذا من شأنه أن يحرر المزيد من النفط السعودي أو العراقي أو الروسي الموجه إلى أوروبا واليابان.
وحقيقة أن تجار النفط يعيدون توجيه شحنات النفط على نحو مستمر حول العالَم تفسر لنا لماذا يتوقع أغلب المحللين أن تعمل العقوبات على خفض إمدادات النفط العالمية بما لا يتجاوز 500 ألف برميل يوميا.
والتحول بهذا الحجم سيكون أقل من انهيار صادرات النفط الفنزويلية بنحو 700 ألف برميل يوميا منذ العام الماضي، وأقل كثيرا من الزيادة المتوقعة في الناتج اليومي الأميركي بنحو 1.1 مليون برميل على مدى الأشهر الاثني عشر المقبلة، ناهيك عن الانخفاض المحتمل في الطلب العالمي على النفط نتيجة للزيادة الحادة في الأسعار منذ الصيف الماضي.
وباختصار؛ من المتوقع أن يكون تأثير العقوبات المفروضة على إيران على التوازن العالمي بين العرض والطلب أقل من تأثير أداء الاقتصاد العالمي وسلوك بقية منتجي النفط.
ويشير هذا إلى سبب آخر ربما يجعل المواجهة بين أميركا وإيران تؤدي إلى انخفاض -وليس ارتفاع- أسعار النفط: فالآن أصبح الحافز السياسي لدى ترامب وحلفائه السعوديين قويا للغاية لمقاومة المزيد من الضغوط التي تدفع أسعار النفط إلى الارتفاع. فقد أهدرت تكاليف البنزين المتزايدة الارتفاع بالفعل ما يقارب نصف المكاسب الناجمة عن تخفيضات هذا العام الضريبية لصالح الأميركيين المنتمين إلى الطبقة المتوسطة.
وعلى افتراض أن ترامب يجد من المناسب سياسيا الحد من ارتفاع أسعار النفط؛ فمن المتوقع أن تقدم له القيادة السعودية أي قدر يطلبه من الدعم. ومن ناحية أخرى؛ ربما تتحول إيران وروسيا -اللتان كانتا سابقا أقل تشددا من السعودية بشأن تسعير منظمة الأوبك- إلى تأييد فرض قيود أكثر صرامة على العرض، خاصة أن أي ارتفاع حادّ في أسعار النفط ربما يؤدي إلى ردة فعل عقابية ضد ترامب.
وتشير تجارب سابقة مشابهة إلى أن الغَلَبة -على الأقل في الأمد القريب- تكون على الأرجح لمصالح أميركا والسعودية السياسية؛ فذلك ما كان صحيحا بكل تأكيد بعد حربين في العراق.
فقد هبطت أسعار النفط عام 1991 (حرب الخليج الثانية) بنحو 45%، وبنحو 35% عام 2003 (غزو العراق)، في غضون شهر واحد من شن أميركا لهجماتها. ربما يبدو الانخفاض إلى هذا المستوى أمرا غير متصور اليوم، لكن أسعار النفط من المرجح أن تتجه إلى الهبوط، برغم العقوبات المفروضة على إيران أو ربما بسببها.
* رئيس معهد الفِكر الاقتصادي الجديد
المصدر: بروجيكت سينديكيت