خيانة المثقفين

الأهرام ويكلي 24 حزيران 1999
ليس هناك من يشك بأن ما حصل في كوسوفو نتيجة وحشية سلوبودان ميلوسيفتش، ورد الناتو، قد فاقم الأمور أكثر ما كانت عليه قبل القصف. أصبحت المعاناة الإنسانية في الجانبين مخيفة، ان كانت في مأساة اللاجئين، او في تدمير يوغسلافيا، فلن يتوفر علاج او حساب لجيل في الأقل، او ربما أطول، كما يظهر ان أي شخص اقتلع من مكانه وطرد لا توجد هناك عودة حقيقية بسيطة الى الوطن، ولا تعويض (غير الانتقام الصريح الذي يقدم أحياناً نوعاً وهمياً من الرضا) يساوي خسارة المرء لوطنه ومجتمعه او بيئته، من خلال تركيب لن نعرف نسبه الدقيق أبداً، برغم دعاية الناتو والصرب، ثم تطهير كوسوفو الى الأبد من أي امل في التعايش بين الجماعات المختلفة.
وسيصبح ذلك ممكنا قريبا، فقد اعترف عدد من المراسلين هنا وهناك، ان ما حدث بالضبط، قد لا يتعلق فقط بالتطهير العرقي للألبان من قبل الصرب، اذ ماتزال كل الاهداف غير معروفة، بما ان قصف الناتو لكوسوفو، واعمال جيش تحرير كوسوفو، والوحشية الحقيقية لأعمال الصرب الجماعية والفردية، حدثت كلها في وقت واحد: ان محاولة تحديد اللوم والمسؤولية في مثل هذه الفوضى صعب جدًا، ان لم يكن مستحيلا، الا لتسجيل نقاط حورية.
لكن ما لا شك فيه ان القصف غير الشرعي زاد وعجل بفرار الناس الى خارج كوسوفو. كيف استطاعت قيادة الناتو العليا، مع الزمرة التي يقودها بيل كليتون وتوني بلير، ان يزعموا بأن عدد اللاجئين سينقص نتيجة للقصف، يفتقر للخيال كلا القائدان، لم يجربا رعب الحرب، او قاتلا، او لهما أي معرفة لما يعنيه البحث البائس عن البقاء لحماية العائلة واطعامها، لهذه الاسباب فقط يستحق القائدان اشد أنواع الإدانة الأخلاقية، وبسبب سجل كلينتون المرعب في السودان، وأفغانستان، والعراق، وأروقة البيت الأبيض، يجب ان يقاضي كمجرم حرب مثله مثل ميلوسفيتش، بأي مقياس، وحتى وفقا لقانون الولايات المتحدة. لقد انتهك كلينتون الدستور بخوضه حرب من دون تخويل من الكونغرس، ويضاف الى جرميته انتهاكه لوثيقة الأمم المتحدة أيضاً.
الأخلاق تعرف ان أراد احد التدخل ليقلل معاناة، او ظلم (هذه الفكرة الشهيرة للتدخل الإنساني التي اشهرها كثير من الليبراليين الغربيين مبررا للقصف)، عليه ان يتأكد أولا بان ذلك لن يزيد من سوء الوضع، ويبدو بأن ذلك الدرس قد فات قادة النيتو الذين اندفعوا بطريقة متهورة وطائشة، ينقصها التحضير، وبذلك قرروا مصير مئات الألاف من أهالي كوسوفو بدم بارد، أما ان يتحملوا نيران الانتقام الصربي، او القصف الهائل بحجمه وشدته (برغم الادعاءات المضحكة عن دقة التقديرات الموجهة) الذي اجبرهم على الفرار الى الإقليم، اصبحوا ضحايا مرتين.
وهناك الآن مهمة واضحة لشكل مستقبلهم بعد العودة، هل هو حرية تقرير المصير؟ الحكم الذاتي تحت سطلة صريبا؟ تحت احتلال الناتو العسكري؟ التقسيم؟ السيادة؟ حسب أي نوع من الجداول؟ من سيدفع؟ هذا عدد قليل من الأسئلة التي ظلت بلا إجابة ان نجح الاتفاق الذي توسطت به روسيا، ونفذ ما الذي يعنيه السماح برجوع بعض رجال الأمن الصربيين او الهيئات العسكرية؟ من الذي يحميهم من العنف الالباني؟ اضف الى ذلك الكلفة الفادحة في إعادة بناء كوسوفو وصريبا، ولديك شبكة من المشكلات التي تتحدى قوى الفهم المحدود، والغش السياسي الذي يمتلكه كل قادة الناتو الحاليين.
ما يقلقني اكثر كأميركي ومواطن، ما تنذر به كوسوفو لمستقبل النظام العالمي حروب (امنة) و (نظيفة) تكون فيها الهيئات العسكرية الأميركية ومعداتها منيعة عن انتقام معاد، او هجوم يوضح امر التفكير فيه كثير من المشكلات، بالتالي كما ناقش رجل القانون العالمي البارز ريتشارد فوك، ان هذه الحروب لها بيئة التعذيب نفسها، حين يكون للمحقق المعذب كل السلطة في اختيار الطريقة التي يشاء، والضحية ليس لديه أي شيء، وبالتالي يترك لنزوات جلاده.
ان مكانة اميركا في العالم اليوم في أدنى مستوياتها بسبب التنمر الغبي في الحاق مزيد من الضرر، أكثر من اية قوة اخرى في التاريخ.
ان ميزانية الولايات المتحدة العسكرية اكثر بـ30% من الميزانية الإجمالية لدول حلف الناتو مجتمعة، تشعر اكثر من نصف دول العالم اليوم اما بالتهديد، او تطبيق العقوبات الاقتصادية والتجارية التي تفرضها الولايات المتحدة.
تتحمل الدول المنبوذة كالعراق وكوريا الشمالية والسودان وكوبا وليبيا (منبوذة لان الولايات المتحدة صنفتها هكذا)، غضب الولايات المتحدة الأحادي الأطراف، وتعاني احداهما من فناء الابادة الجماعية، والفضل في ذلك يعود الى عقوبات الولايات المتحدة التي تستمر في تجاوز أي غرض منطقي، الا إرضاء مشاعر الولايات المتحدة بالغضب المبرر، ماذا يفترض بهذا ان يبلغ، وما الذي يقوله للعالم عن قوة الولايات المتحدة؟ هذه رسالة مخيفة ليس لها أي علاقة بالأمن والمصلحة القومية، او الأهداف الاستراتيجية المحددة بوضوح، انه مجرد استعراض قوة، وحين يسحر كلينتون موجات الأثير ليعلم الصرب او العراقيين بأنهم لن يحصلوا على مساعدة من البلاد التي دمرت بلادهم، الا اذا غيروا حكمهم.
العجرفة هنا لا تعرف حدود المحكمة الدولية التي صنفت ميليسوفيتش مجرم حرب ليس لها أي قابلية للتطبيق، او مصداقية في الظروف الحالية، الا اذا طبقت المعايير نفسها على كلينتون وبلير والبرايت وساندي بيرغر وجنرال كلارك، والأخرين الذين تجاوز غرضهم الإجرامي كل أشكال الحشمة وقوانين الحرب، في المقارنة بين ما فعله كلينتون في العراق، وبين ميسلوفيتش بكل وحشيته، يظل الأخير في مرتبة هاو غر في شره، ما يجعل جرائم كلينتون أسوا، والأهم من ذلك هو تنكره وراء التظاهر بالتقوى والقلق المزيف الخداع الذي يخدع به الليبراليين الجدد، الذين يديرون حرب الناتو العالمية، من الأفضل الان ان تكون محافظا صادقا، بدلا من ان تكون ليبرالي محتال.
تضيف وسائل الإعلام الى هذا الوضع غير السليم، مزيدا من السوء في الواقع، فقد لعبت دوراً لا يتفق مع المراسل غير المنحاز، وإنما بدور النصير والشاهد الجزئي لحماقة ووحشية الحرب.
خلال الايام التسع والسبعين من القصف، شاهدت ثلاثين يوماً من مؤتمرات الناتو الصحفية الموجزة في الأقل، ولا أستطيع تذكر اكثر من خمس او ست أسئلة للمراسلين، تحدث من بعيد الهراء الذي يذيعه جامي شيا، وجورج روبرتسون، والأسوأ منهما خافير سولانو، الذي باع روحه (الاشتراكية) للهيمنة الكوكبية الأميركية.
لم يكن هناك أي تشكيك من قبل وسائل الإعلام، لم تفعل أي شيء اكثر من (توضيح) مواقف الناتو، مستخدمة عسكريين متقاعدين (ليس بينهم أي امرأة) لتفسير ضرورات القصف الإرهابي.
وبالمثل كتبة العواميد والمثقفين الذين كانت تلك حربهم بمعنى ما، وتغاضوا عن تدمير البنية التحتية في صريبا (التي قدرت ب 136 بليون دولار أميركي) في تعصبهم للفكرة التي ترى (اننا) كنا نقوم بشيء لوقف التطهير العرقي، والأسوأ من ذلك، التغطية الاعلامية الفاترة لعدم شعبية الحرب في الولايات المتحدة، وإيطاليا، واليونان، وألمانيا.
لم يرد ذكر لما حدث في رواندا قبل أربع سنين، او في البوسنا، او إزاحة 000،350صربياً على أيدي تودجمان، او الأعمال الوحشية التركية المتواصلة ضد الاكراد، او قتل اكثر من 000،650 مدنياً عراقياً، او التطهير العرقي الإسرائيلي في فلسطين عام 1948 الذي يستمر بدعم سخي حتى اليوم، بأي أشكال جوهرية يختلف كل من شارون، وباراك، ونتياهو، وايتان في آرائهم وممارساتهم تجاه الأعراق المتعددة، (والادنى) عن ميلسوفيتش وتوجمان؟
في فترة ما بعد الحرب الباردة يبقى السؤال: هل ستحكم الولايات المتحدة العالم بسياستها العسكرية-الاقتصادية القذرة التي لا تعرف سوى الربح والانتهازية؟ والسؤال هل من الممكن تطوير مقاومة فكرية قوية وأخلاقية لسياساتها؟ بالنسبة لنا نحن الذين يعيشون في فضائها، او مواطنيها، الواجب الأول هو ان نتخلص من إرباك اللغة المنحطة، والرموز المستعملة لتبرير الممارسات الأميركية والنفاق، لربط سياسات الولايات المتحدة في أماكن مثل بروما، وإندونيسيا، وايران، وإسرائيل، بما يجري فعله الآن في اوروبا- جعلها آمنة لاستثمارات الولايات المتحدة وتجارتها- ولإظهار ان هذه السياسات متشابهة أساسا، برغم ان محاولتها تبدو مختلفة، لا يمكن ان تكون مقاومة من دون ذاكرة وعقيدة، ان كان التطهير العرقي شرا في يوغسلافيا- كما هو كذلك طبعا- فهو شر في تركيا، وفلسطين، وافريقيا، وأي مكان آخر أيضا.
ان الازمات لا تنتهي بمجرد ان تتوقف محطة (C.n.n) عن تغطيتها، لا يمكن ان تظل ازدواجية المعايير ان كانت الحرب وحشية، واذا كان الطيارون الاميركيون يقصفون من علو 000،30 قدماً ويبقون سالمين ام لا. وان كانت الدبلوماسية هي الوسيلة المفضلة دائما فيجب ان تستعمل مهما كلف الأمر.
أخيراً ان كانت الحياة الانسانية مقدسة يجب ان لا يضحى بها باحتقار ان لم يكن الضحايا من البيض والأوروبيين يجب دائما على المرء ان يبدأ مقاومته من وطنه ضد السلطة كمواطن يمكنه التأثير لكن يا للأسف فقد سيطرت القومية المتدفقة المتقنعة بالوطنية والمصلحة القومية على الشعور النقدي الذي يضع الولاء للـ(امة) فوق كل اعتبار في تلك النقطة ليس هناك سوى خيانة المثقفين والإفلاس الأخلاقي في الكامل.

من كتاب خيانة المثقفين لادوارد سعيد

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة