يتناول كتاب “الديمقراطية في أميركا” للباحث والخبير شبلي ملّاط، ظاهرة مهمة للغاية على الصعيد العلمي وعلى الصعيد السياسي، ألا وهي تشريح العملية الديمقراطية، وتشريح النظام الديمقراطي، ولعل أفضل طريقة لإنجاز هذا الهدف المهم في عالمنا وفي بلدنا الباحث بلهفة عن انموذجه الديمقراطي أنه يرتكز على دراسة حالة عيانية مهمة وهي حالة الديمقراطية في الولايات المتحدة.ومن القضايا المهمة في هذا الكتاب ارتكازه الى واحدة من أهم المرجعيات في الدراسات الديمقراطية أليكسس دي توتكيفل الذي يعدّ أهم المراجع المتاحة لدراسة هذه التجربة.
وكذلك تكمن أهمية الكتاب في أنه يشير الى التحولات الجديدة في العالم الراهن وهي تحولات لابد من وضعها في إطارها التاريخي والإنساني.وهو أيضا يرسم الطريق لمجتمع بلا عنف، ومجتمع يرتكز على التعاون والتفاهم الإقليمي المرتكز على نشر قيم المساواة، ومحاربة الفقر، ونبذ الاستغلال الاقتصادي للشعوب.
كما أنه يتيح للقارئ إدراك إمكانية خلق نظام عالمي واسع من دون أوهام التسلط الإمبريالي أو الدكتاتوريات الأيديلوجية، ويعلي بشكل كبير دور العدالة والقضاء في تنظيم التوازن الاجتماعي وتعزيز القيم الحضارية والانتصار للعدل والحياة.
تنشر “الصباح الجديد” حلقات من هذا الكتاب كإسهام في تعميق الجدل والمعرفة وتوسيع دائرة العلم بالمناهج والمراجع الضرورية للعملية الديمقراطية بنحو عام وفي العراق بنحو خاص.
الحلقة 4
شبلي ملّاط:
ان الارقام الزاهرة قد تخفي تساؤلات عن حقيقة النجاح الاقتصادي خارج الخريطة المألوفة للمؤشرات المتبعة ، ومن بينها التغيير الجذري الذي طرأ على تركيبة القطاعات الاقتصادية نفسها. ان التقييم الاقتصادي الذي ثبت واستقر في النصف الاول من القرن العشرين هو تقييم يعتمد في مقاربته العامة macro على توصيف ثلاثي للقطاعات الاقتصادية- الصناعة والزراعة والخدمات ، في حين ان هذا التوصيف بات فارغ المعنى في ظل نمو السلع غير الملموسة ، كما في ظل الصفة التصنيعية الطاغية على القطاع الزراعي. فالزراعة تجند اقل من 3 بالمائة من اليد العاملة الوطنية في الولايات المتحدة ، وقد صارت محكومة في نموها بالاكتشافات البيو-تكنولوجية ، فيما باتت الصناعة تشمل منتوجات hardware وبرامج software تدخل نظريا في عداد “الخدمات” .
لذلك فأن الحاجة ملحة الى توصيف جديد يقرن الزراعة بالصناعة ، ويفرق بين قطاعات منتجة وغير منتجة في اقتصاد قائم على الخدمات في معظمه. ان التوصيف الثلاثي المعهود لم يعد مجديا ، ولمزيد من الدقة في فهم الاقتصاد المعاصر يجب التنبيه الى ان الاقتصاد بات مرادفا ل”الصناعة” عموما وان الانتاج بات يشمل سلعا لا تخضع للتقسيم الثلاثي القديم لا سيما ان الفرق بين السلع الملموسة والخدمات غير الملموسة مشرف على الزوال. وقد يصبح من الاجدى التمييز بين سلع “صالحة” للسوق وسلع “غير منتجة” وتقرأ هذه مثلا من باب المضاربة المحمومة في اسواق المال وبين سلع “صالحة” وسلع “سيئة” (مثلا المخدرات) ، من ضمن مقاربات فكرية تستند الى افاق مختلفة في الجردة الاقتصادية ومفاهيم المحاسبة. وفي اميركا تحديدا تبدو المداخيل الخفية invisibles مصدرا مهما للثروة الوطنية في ظل طغيان الخدمات واستحواذها المتنامي على الاقتصاد عموما. فمقابل الخلل المزمن في الميزان التجاري trade balance تشكل المداخيل الخفية اموالا غزيرة يتم ضخها كل يوم في الاقتصاد الاميركي بطرق شتى. وهذه الاموال تتدفق على الولايات المتحدة بغض النظر عن مدى ارتباط هذا المدخول بالاقتصاد الاميركي نفسه ، وتتخذ اشكالا مختلفة في تنشيط العجلة الاقتصادية ، فقد تكون هذه الاموال توظيفات طويلة الامد او ودائع لامد قصير ذات فائدة منخفضة في المصارف الاميركية ، او مجرد حوالات عابرة. وقد عرفت السيتي city في لندن لعقود طويلة بهذا المدخول الذي يصعب تقييمه اقتصاديا في الانعاش الضخم والمستمر للاقتصاد الوطني ، ولا تزال مدينة نيويورك لولب الرأس المال العالمي ، وقد زاد التوظيف الاجنبي المباشر في الولايات المتحدة fo-reign direct investment اربعة اضعاف في اربع سنوات فقط. اما اذا كانت رؤوس الاموال الداخلة والخارجة من البلاد اقل تأثيرا على الولايات المتحدة نظرا لحجم الاقتصاد الاميريكي مقارنه بالبلدان الطرية العود فأن تقدير التحركات المالية يبقى رقما صعبا في الميزانية العامة والحالة الاقتصادية في البلد.
ومن ناحية اخرى زاد التغيير النوعي الذي طرأ على القطاعات الاقتصادية تعقيدا لما اصابها من تغيير جذري من حيث ارتفاع السن وازدياد الليونة في اليد العاملة الاميركية. فأذا كان الموظف المأجور لا يزال هو القاعدة في هيكل دنيا العمل ، فقد تأثرت اليد العاملة في صميمها بتضافر عاملين ، اولهما ازدياد معدل السن في المجتمع ككل ، وثانيهما الليونة flexibility التي ادخلتها ثورة الاتصالات الى حقل العمل. فالمفاهيم الاقتصادية الكلاسيكية ليست كافية للاحاطة بمستجدات العمل والعمال بالمعنى الاوسع للكلمة ، والتي تطرأ في عالم اقتصادي واجتماعي بالغ التعقيد ، فتوحي بضرورة ابتكار معادلات جديدة لاستيعاب التغيير الذي طرأ على هيكل القطاعات الاقتصادية ولرسم الخطة الملائمة تجاه يد عاملة تبتعد اكثر فأكثر عن المجموعة المعهودة من العمال المأجورين في فترة عطاء محددة بين سن البلوغ وسن التقاعد.
فالتحدي الاساسي هو التقييم الصحيح للاخطار المحدقة بالنمو الاقتصادي داخل اقتصاد متعدد العناصر لا يزال ينقصه الاطار العلمي الشامل ، والتركيز على مؤشرات اقتصادية تتخطى المعايير المعهودة من ناتج اقتصادي عام Gross domestic ، product، GDP او نسبة التضخم او البطالة.
تحد اخر في اقتصاد القرن الافل يمثله عنصر التعاطف Compassion والتعاطف عبارة راجت في خطاب الجمهوريين وحلفائهم في اميركا في العقدين الماضيين. واذا كانت الكلمة لا تعود الى الرئيس بوش اصلا ، فانها صارت واسعة التداول لدى خلفاء رونالد ريغان الجمهوريين ، فتمثل في اذهانهم صمام الامان للبنية المدنية والاجتماعية التي دمرها اطلاق عنان قوى السوق العاتية وما تبعها من طغيان المال السريع على العجلة الاقتصادية الاميركية. اما اذا كان “التعاطف” عند الرئيس السابق جورج بوش لا يقل رطانة عن حديثه الشهير عن رفض زيادة الضريبة ، فأن وجود اربعين مليون مواطن اميركي يعيشون في حالة فقر رسمية لا بد ان يبقي عنصر التعاطف اساسيا على الساحة العامة.
ويرافق الحاجة الى “التعاطف” في التعاطي مع الفقر المزمن داخل المجتمع الاميركي تحد ثالث ، الا ان هذا التحدي له طابع دولي ، شأنه شأن الاقتصاد العالمي. فميزان المدفوعات الاميركي يبقى خاضعا للتقلبات المالية المفاجئة ويحتاج الى معالجة ما سماه بعض الباحثين ب” اندفاع قطعان الغنم” داخل الاسواق المالية وحولها، ومثل هذه المعالجة ممكنة عن طريق ضوابط واضحة في عالم الاعمال بعدما اضعفت المسؤولية فيها جراء صعود المضاربة الاثيرية في هذه الاسواق بحجم لا سابق له منذ عولمة الاتصالات والاسواق المالية.
وقد جاءت المضاربات العشواء على العملات تدمر المستثمرين الصناعيين في القطاعات المنتجة في العالم فكافأت الربح السهل الخالي من اية قيمة مضافة لجهة العمل. واذا كانت اليات التحركات المالية الدولية غامضة بالنسبة لرئيس المصرف المركزي الامريكي نفسه فإن اية خطة في هذا الشأن سوف تبقى بالضرورة متأنية ومقسمة الى مراحل تتدرج على فترة طويلة-وقد يكون في هذا المضمار تطوير ضريبة مركزة على ارباح المضاربة الدولية العشواء خطوة اولى على درب التبعة المنشودة في اسواق مالية مشحونة بالربح السريع وخالية من اي ضابط اقتصادي.
يمثل التردي البيئي الاقتصادي محطة اخرى في معالجة مفيدة للثغرات الاقتصادية الكبيرة. واذا كان الحقل الدولي هو الاطار الافضل لبحث هذا الاصلاح، فلا بأس من التذكير بأنه لم يعد ممكنا او مقبولا التغاضي على تفرد استهلاك 280 مليون امريكي، وهم يشكلون 4,5 بالمائة من سكان الارض، ما يقارب 30 بالمائة من ثروات العالم. ومهما كان التغيير المنشود قائما على مقاربة بيئية اكثر اتزانا او مرتبطا بالتقليل من الدعم المادي والمعنوي لقوى غير منتجة في العالم الثالث، او مدفوعا ب”نظام عالمي جديد” تتصدره واشنطن فإن المستوى الرفاهي الذي يتمتع به المواطن الامريكي، الAmerican way of life يمكن ان يعتنق خارج حدود الولايات المتحدة بالتدرج والشمول الذي رافق خطة مارشال واعمار اليابان بعد الحرب العالمية الثانية. اما واذا كان صحيحا ان المصلحة المقترنة بالدولة كما هي قائمة في النظام العالمي”، فأن التباين الشديد في موارد الكون واستئثار قلة قليلة من المعمورة باستهلاكها لا يمكن التغاضي عنه من دون تعريض العالم الى كوارث انسانية متتالية. من الطبيعي ان تعمد الحكومة الى ابقاء الامور على حالها عندما تسير الامور بنجاح ظاهر. ولكن فن القيادة ليس في الاستكانة بل في احياء روح مختلفة كالتي طغت على ايام العقد الجديد new deal او خطة مارشال، او المجتمع الكبير great society فالموارد متوفرة والحروب المكلفة محدودة بعد زوال شبح فيتنام والحرب الباردة ولا نزاع يهدد بتبديد الفائض الفيديرالي. وهذا الوضع يتطلب سياسة كينيزية Keynesian policy تستند الى مشاريع مستقبلية كانت غائبة خلال ادارة كلينتون ومنها المشاريع التي تؤدي وان كان الامر غريبا الى خفض تدخل الدولة في الاقتصاد، وابتكالر مؤشرات اقتصادية اكثر دقة وشمولا من تلك المعهودة. اما بالنسبة لجعل “التعاطف” حقيقة وليس مجرد امنية فعلى رئيس اغلى دولة في العالم ان يقوم بحسب قول احد كبار مؤرخي امريكا المعاصرة “بما يمنع استمرار الفقر افة وطنية معيبة في ظل هذه التطورات الجارية نحو الاحسن”.
فالمؤشرات الجدية التي يجدر تقديمها مفيدة للمحافظين والتقدميين في الولايات المتحدة على السواء، وبها يمكن تخطي الفقر المزمن وتوفير الادوات الكفيلة باحراز تقدم نوعي في هذا المجال وقياسه بدقة على مستوى الجمهورية الاميركية، كما على مستوى العالم اجمع.
وقد تنجح في النهاية السياسة الاستكانية التي تحافظ على الوضع الراهن، لكن التحديات موجوة، وان لم تكن بادية للعيان في المؤشرات المعهودة. غير ان النجاح الاقتصادي واقعة اكيدة في عهد الرئاسة الاميركية الثانية والاربعين، مهما كثرت الاسئلة الصعبة والنقاط السوداء فيها.