ابتسام يوسف الطاهر
الكثير من الكتاب أو المعنيين بالشأن الثقافي وربما السياسي، يخلطون بين ثقافة العنف والعنف الثقافي. المصطلحان يبدوان قريبين من بعضهما أو ربما يكملان بعضهما.
العنف الثقافي أراه في كل ما يمارس ضد المثقف سواء كان مفكرا أو روائيا أو شاعرا..وهذا متمثل باقصاء أو تجاهل المنتج الثقافي أو العلمي. التعتيم عليه اذا كان مختلفا بعض الشيء مع وجهات نظر القائمين على الشأن الثقافي المؤسساتي. وقد يمارس العنف من قبل مثقفين أو منضوين تحت لواء الثقافة لكنهم موالون لحزب أو طائفة أو كتلة لا تؤمن بالديمقراطية، قد تؤمن بها شكلا، ولكنها تمارس كل الوسائل لتغييب الاخر بل وتغييب الديمقراطية.
والعنف الثقافي يتمثل ايضا في قمع حرية المبدع الكاتب، كمفكر أو روائي أو فنان. فالحرية هي اول شروط الابداع. واذا غابت الحرية يتخلخل الابداع ويصبح مجرد بوق لا يمثل غير من يحمله. والحرية لا نعني بها الحرية غير المسؤولة أي الانحلال والتجرد من القيم الاخلاقية والاجتماعية. ولكن المعني بها حرية الفكر والدفاع عن الفكر الآخر لإضاءة عتمة الجهل والتخلف المستشريان في مجتمعنا. وحرية المثقف حسب قول جون لوك: هي ألا يتعرض المرء للتقييد والعنف من قبل الآخرين. المجتمع الثقافي الذي ينضوي تحت ظاهرة العنف يتخذ أفراده مفاهيم معادية تجاه الآخر ويتبنى سياسة الاقصاء. تكمن على شكل عنف معنوي أو مادي مثل تشكيك المثقف بالآخر ومحاولة التقليل من شأن مشاريعه وإنجازاته، وهذا شكل من اشكال الإقصاء والذي بدوره يؤدي إلى حالة من القلق والاحباط وقد يؤدي للعنف احيانا.
بينما يوهان غولتنغ في كتابه (العنف الثقافي) يفسر مفهوم العنف الثقافي على انه استكمالا لمفهوم العنف البنيوي، الذي هو تعبير استعمل لأول مرة في الستينات ليدل على احد اشكال العنف الذي يتوافق مع منهجية المؤسسة الاجتماعية المهيمنة والتي قد تقتل بشكل غير مباشر من خلال منع المستهدفين من الحصول على احتياجاتهم الاساسية. وهذا من خلال القمع السياسي والاجتماعي والاستغلال الاقتصادي وبالتالي يؤدي الى زرع بذور الكراهية والعنف والارهاب.
فالعنف الثقافي حسب غولتنغ مظهر من مظاهر الثقافة التي تستخدم لشرعنة العنف بشكل مباشر أو بنيوي كما سبق .. فالعنف الغير مباشر يبنى داخل الثقافة بدون قتل أو تشويه مباشر لكنه يستعمل لتبرير أو شرعنة احدهما كما في نظرية العرق الارقى أو شعب الله المختار!
وآخر يعرف العنف الثقافي: على انه مصطلح يعبر عن فرض رؤية حزب أو جماعة أو سلطة ما على مجتمع متنوع متعدد الاطياف. فيمارس إنكارا وتجاهلا لشخصية الأخر ومتطلبات حياته مما يفضي إلى إثارة الغضب الذي يواجَه بسلوك سلطوي عنيف يمارسه إتباع السلطة ومروجو ثقافتهم العنيفة ويضاعف شقة الخلاف بين الإطراف ويعمل على إخراس الأصوات وتحويل العلاقة التكافلية بين السلطة والمجتمع إلى علاقة متسلط ومسلوب.
في حين بعضهم يرى العنف الثقافي فيما تمارسه منظمات سياسية وفكرية ودينية ومتزامن مع العنف المجتمعي والقتل والإرهاب الأعمى الذي غزا مجتمعاتنا في الوقت الحاضر. عن طريق وسائل أعلامها المختلفة وقنواتها الفضائية الموجه التي تبث عبر شبكات التواصل الاجتماعي والفضائيات المختلفة محاولة فرض ثقافتها على الآخرين تحت شعار مظلومية أقلية قومية أو طائفية أو حزب.
من جانب آخر، تزامن تفاقم دور العقائد الأحادية المدّعية امتلاك الحقيقة المطلقة، والرافضة للتباين والاختلاف، مع تغييب دور المؤسسات الثقافية العلمانية الديموقراطية، مما ادى إلى انتشار مفاهيم التكفير والتخوين. وممارسة العنف الفكري والجسدي ضد الآخر، ما أدى إلى زيادة الانقسامات الاجتماعية، وتصدع الوحدة الوطنية، وتحوَّل التنوع الاجتماعي من مصدر للغنى والإبداع إلى أسباب الصراع الذي يهدد السلم الاجتماعي ويدفع المجتمع للتقهقر بدلا من التقدم.
الحقيقة ان ماتقدم من تعريفات، تعب عن مصطلح ثقافة العنف..الذي تمارسه السلطة أو المنظمات العنصرية الطائفية المتسلطة، التي تؤمن بأن صوتها هو الأعلى وهو الاصلح.. وبالتالي تقصي الاخر اذا اختلف معها. وهذا مارسته المجتمعات والشعوب والبلدان منذ العصور الاولى لإنشاء المجتمعات. واسهم الشعراء بتعزيز نزعة التعالي والتفاخر بالعنف “بأنا نورد الرايات بيضا ..ونصدرهن حمرا قد روينا/ متى ننقل الى قومٍ رحانا..يكونوا في اللقاء لها طحينا”. فرايات الشاعر رويت بدماء الآخر الذي هو حينها صديقه، الملك.. قد يبالغ رواة التاريخ ويحرفون الحقائق عن سبب ذلك العنف والتفاخر بالقتل لأسباب غير منطقية، من تعالي وغرور ونزعة قومية متعالية.
كما الحال اليوم في ظهور النازية وغيرها من الاحزاب القومية التي تبنت العنف من اجل الانفصال وخلق جو عدائي مشحون بالكراهية بين ابناء الوطن الواحد، لحد تمزيق وحدة الشعوب والأمم، كما في العراق وغيره من الدول العربية التي تعاني ذلك الشقاق والعنف وظهور عصابات الارهاب التي روعت وتروع ابناء الوطن الواحد، مستغلة كل الوسائل التقنية الحديثة لإشاعة ثقافة العنف أو تبرير العنف الذي تمارسه من خلال بعض الكتاب والمثقفين أو ذوي الصحف الذين يحاولون تبرير كم العنف ذاك على انه رد على العنف الاميركي الذي تروجه وتبيعه اسلحة في يد الجهلة والموتورين.
بينما العنف الثقافي كما بينت في المقدمة، هو ما يمارس ضد المثقف كاتبا أو فنان من اقصاء الى حرمان من اسماع صوته، بوسائل مباشرة أو غير مباشرة، منها تخلي الدولة عن مهمتها في دعمه. مايزيد من معاناة الكتاب والادباء والمفكرين في مجتمعاتنا في حرمانهم من نشر منتجهم الفكري اذا كانوا من ذوي الدخل المحدود أو من الذين لم ينضووا تحت لواء حزب أو مؤسسة متنفذة! فهذا احد اشكال العنف الثقافي، حيث يفتح المجال واسعا أمام الأقلام غير المسؤولة وغير المعنية بالثقافة والمجتمع، للانتشار. وهذا بدوره سيفضي الى التجهيل المتعمد والذي هو المنشأ الخصب للعنف.
واخيرا هناك ظاهرة اضعها في خانة العنف الثقافي. وهو ما تمارسه القنوات التلفزيونية والفضائيات التي تكاثرت، مع تكاثر الحشو والبرامج المكررة، كثرة الاعلانات والدعايات وبشكل غير مدروس. وهو عصر الاعلانات بلا منازع، بحيث بتنا لا نتمتع بمتابعة أي برنامج ثقافي أو فيلم وثائقي، بل حتى الاغاني، لكثرة الانقطاعات لتقديم كم من الاعلانات المعادة والمطولة مما يدفعنا احيانا الى التوقف عن المتابعة. في حين اخبار العنف والتحريض تتواصل على مدار الساعة.