رجال ووقائع في الميزان

يرسم الراحل جرجيس فتح الله أفقاً فكرياً وسياسياً نادر المثال فهو بهذا العمل يتطرق إلى زوايا وأحداث وشخصيات كان لها أدوارها المميزة سلباً وإيجاباً في التاريخ العراقي. ومما يلفت النظر في هذه النصوص التي وردت في كتاب رجال ووقائع في الميزان أنها أضاءت بنحو دقيق لحظات وأحداثاً ومسالك فكرية وشخصية وثقافية وتاريخية لم يتطرق إليها احد قط.
“الصباح الجديد” تقدم قسطاً وافراً من هذه الإضاءات كما وردت على لسانه لجمهور لم يطلع عليها في السابق بمعزل عن عمق ثقافة هذا الجمهور او صلته بالسياسة العامة. إنها ليست أفكاراً فحسب وإنما هي شهادات تنطوي على نبوءات مثيرة للدهشة عن اثر المناهج والأيديولوجيات والشهادات التاريخية السابقة للأشخاص الذي يجري الحديث عنهم ويسهم الراحل جرجيس فتح الله في تصحيح الكثير من المواقف والتصورات والوثائق السياسية المرافقة لمواضيع الحديث. كما ان أفكار السيد فتح الله تستكمل في أحيان كثيرة ما كان نصاً لم يكتمل في الماضي. إننا من دواعي الاحترام والتبجيل لهذه الشخصية النادرة نسطر عدداً من هذه الأفكار في الكتاب المذكور” رجال ووقائع في الميزان”.
الحلقة 22
حوارات مع جرجيس فتح الله*

كانت مصر اذ ذاك لا تملك قوة عسكرية مهيأة معنويا وعدة لخوض غمار حرب وبجيش لا يتوقع له الصمود قط امام حلف كهذا . لكن بفض اقوى دولتين في العالم : الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة قطبي الحرب الباردة جرى انقاذ عبد الناصر بل حقق نصره .
في ذلك الحين , وبأستقراء الوضع السياسي العالمي , لم تكن اي من هاتين الدولتين تهتمان قلامة ظفر ببقاء عبد الناصر او بسقوطه بعد ان اعلن في مؤتمر باندونغ ابتعاده عنهما ورفضه الدوران في فلك اي منهما بتبنيه سياسة الحياد وعدم الانحياز والدعوة لها بكل حماسة .
الا ان هذين القطبين كانا يخشيان من ان يجر هذا الغزو الكريه الى ان تنقلب الحرب الباردة الى حرب حارة . قد يستخدم فيها السلاح الذري فمارستا نفوذهما في مجلس الامن وهددتا بتدخل الامم المتحدة ثم هددت الولايات المتحدة بريطانيا بأنهيار نقد السترلنك على ما هو معروف . واسرع خروشوف رغم انشغاله بأخماد ثورة هنغاريا الديمقراطية يهدد الغزاة بهجوم صاروخي واخذت الولايات المتحدة التهديد مأخذا جديا فرفضت رفضا قاطعا اي تنسيق سياسي مع بريطانيا وبأي وجه قبل تمام الانسحاب . حتى الدول الاعضاء في حلف بغداد الذي اقام عبد الناصر عليه الدنيا ولم يقعدها . فقد طالبوا وبشدة بالانسحاب الفوري . وتم ذلك واستغل الامر استغلالا دعائيا في رفع مكانة عبد الناصر ونظامه . وهكذا وبشكل درامي لا مثل له ورغم الخذلان الذي مني به اصبح دور الدولتين العظيمتين شئنا ام لم نشأ دورا ثانويا بالقياس الى عبقرية عبد الناصر .
كانت هذه واحدة من الاسباب الرئيسية التي زودته بالطموح والقوة على متابعة مشاريعه في البلاد الناطقة بالعربية وامتطاء حصان العروبة الجموح وخوض عباب الوحدة الشاملة المتلاطم . فتلاحقت هزائمه ولم يبتسم الحظ له كما ابتسم في العام 1956. والحظ يأتي مرة واحدة.
يتحدث الملك حسين في كتابه الموسوم “يستقر الرأس مضطربا عن المؤتمرات التي حاكها عبد الناصر لاغتياله فيقول في الصحيفة 212: “بلغ من احكام وتنوع المؤامرات التي نسجت لقتلي , بحيث صرت اشعر احيانا وكأني الشخصية المركزية التي تدور حولها رواية بوليسية – لم تعد مؤامرته تزعجني (يقصد عبد الناصر ) لأني كنت اكتشفها في الوقت المناسب “.
سأخل قليلا بالسياق كما فعلت الان لاذكر هنا , ان التقارير التي كانت تصل الرئيس المصري من عبد المجيد فريد في تلك الايام دلت بشكل لا مرد له ان العراق سينضم وشيكا الى ج ع م . ونشرت صحف القاهرة بعناوين ضخمة مثلا نبأ استبدال اسم شارع الملك فيصل بأسم عبد الناصر . واكدت اذاعة صوت العرب من القاهرة ان الوحدة العربية الكاملة كانت ” الهدف المحدد لثوار تموز “. وكتب له (فريد) ان تظاهرات ضخمة سارت في العاصمة مع مواكب بلافتات وصور له تطالب بالوحدة الفورية . وفزع الحزب الشيوعي العراقي فعلا لتلك الموجة الكاسحة ولم اطراف شجاعته فأصدر بيانا فيه من الخوف ما فيه فضلا عن بعض مصانعة . نقلته الانباء الخارجية في 26 من تشرين الاول 1958 وهذا هو:
“يؤكد الحزب تأييده لمبدأ الوحدة العربية الشاملة من المحيط الى الخليج الا ان الشعب العراقي الذي افتقد الحريات الديمقراطية , يرى ان نيلها وممارستها غير ممكن في حالة الاندماج بالجمهورية العربية المتحدة اذ لا يوجد هناك معالم للديمقراطية , والنشاط الحزبي محرم”.
شهادة عبد اللطيف البغدادي نائب رئيس ج .ع.م
مهما يكن وعندما ابتعد حلم الاندماج قليلا وضع عبد الناصر امل في محاولة الشواف , وبسخاء مفرط واندفاع الشاب المراهق الذي تجلى في ردود الفعل العنيفة بعد فشلها فضلا عن المرارة والخيبة اللتين تجدهما في متاب “شهادتي للتاريخ ” لنائب رئيس ج.ع./ عبد اللطيف البغدادي قال :
“يوم الاثنين 2 اذار 1959 , حضر الينا ملحقنا العسكري في العراق الضابط عبد المجيد فريد , وقام بأبلاغ (جمال) ان هناك تحركا عسكريا في الجيش العراقي بهدف القيام بأنقلاب عسكري ضد قاسم للقضاء عليه وعلى نظامه وانه موفد من قبل .. لمعرفة موقف ج.ع.م من طلبهم الدعم . وكان السراج (عبد الحميد السراج ) قد سبق وابلغ جمال بذلك اثناء تواجدنا في حلب. وقال انهم بحاجة الى مدهم بقوات عسكرية بالاضافة الى بعض الاسلحة ومحطة ارسال متنقلة . وقد وافق جمال على مدهم بما يحتاجون لكنه ابدى تعذر امدادهم بقوات عسكرية … وفي صباح الاحد 8 اذار علمت من جمال ان الثورة قامت في منتصف ليلة السبت وان محطة الارسال المتنقلة قد ارسلت اليهم وكذا بعض الاسلحة الخفيفة . واجابني بالايجاب عندما استفسرت منه عما اذا كان هناك توقيت للتحرك متفق عليه بين قوات الموصل وقوات بغداد . فذكر من المفروض ان تكون قوات بغداد قد تحركت ايضا . وتبين لنا ان محطة الارسال التي ارسلت للثائرين كانت ضعيفة الارسال وان اذاعتها غير مسموعة الا لمسافات قصيرة . لذلك رؤي استخدام محطة ارسال اخرى سرية لتذيع بأسم ثوار الموصل . ووضعت بأمر من( جمال ) في منطقة الغوطة القريبة من دمشق واخذت تبث على انها هي نفسها محطة الموصل . وارسل جمال بيان الشواف كاملا الى وكالة انباء الشرق الاوسط في بيروت والقاهرة لتعمل على نشره في صحف اليوم التالي كما اخطرت اذاعتا القاهرة ودمشق للقيام بأذاعة جزء اكبر من البيان ثام (جمال ) بتحديده هو بنفسه . كان (جمال)في حالة ضيق شديد لتدهور الموقف السريع في الموصل واعتبر ما يجري هناك معركة شخصية بينه وبين (قاسم) . ووصلتنا برقية من (عبد المجيد فريد) في بغداد ذكر فيها ان الشيوعيين يتظاهرون في شوارع المدينة ويهتفون ضد ج ع م وبسقوط (جمال) وقدر عددهم بالالاف . ولم يشر الى اي نشاط عسكري ممن كانوا يدعون انهم مستعدون للقيام بثورة … وقامت اذاعة بغداد بالاعلان عن مقتل الشواف فتساءل (جمال ) بعد وصول تلك المعلومات عنا يمكن اذاعته … ورأى انه ربما يساعد في تحقيق رفع الروح المعنوية بعد تدهور الحالة في الموصل ان تعمد الى تكذيب ما يذاع من محطة بغداد وان نواصل الاذاعة بأن ثوار الموصل ما زالوا مسيطرين على الموقف وان الشواف لم يقتل .
وقام(جمال ) بنفسه باعداد ما يذاع . واذيع بعد ذلك بيان وكأنه عن لسان الشواف من المحطة السرية بالغوطة …
واستأنفت محكمة المهداوي جلستها لمحاكمة (خليل كنه) وسمعنا من النداءات ما لا حد له موجهة الى ج ع م ورئيسها (جمال) وجاء عن لسان المهداوي ان محطة ثوار الموصل السرية تقع داخل الاراضي السورية… ولم يكن (جمال)معنا يستمع ما دار في المحكمة . وتساءل عنا دار فيها ولم نشأ ابلاغه بالحقيقة لكنه اصر . وظهر عليه الالم الشديد بعد قراءتها ولم يشأ ان نراه على هذه الصورة , فأستأذن ودخل غرفته … وقام (جمال) في نفس ليلة 10 اذار بأتخاذ العدة لاعداد ما يلزم وكتب بنفسه عدة اخبار لتنشر في الصحف وكانت كلها تهدف الى اثارة الشعب العراقي ضد (قاسم) وتجسيم الخسائر التي حصلت في الموصل. ومحاولة اثارة العطف ايضا على الثوار بالتنديد بالاجراءات التي اتخذها (قاسم) هناك وادعى انه قام بأعدام ستين ضابطا كما ادم ايضا كل شخص مدني شك في انه تعاون مع الثوار وان ذلك تم من دون محاكمة . لكننا تخوفنا من المبالغة في هذا الامر فربما يأتي بنتيجة غير ما نرجو ونتمنى وتجعل الشعب العراقي يحمل (جمال) مسؤولية هذه الضحايا ومع كل ما حصل هناك , او ان يعرف الحقيقة وهي غير ما ذكرنا ويعلم اننا نغالي فيما ننشر من اخبار فيفقد ثقته في ما نعلنه . لكن (جمال) ظل مقتنعا بما يفعله.

*اجرى الحوارات السيدان مؤيد طيب وسعيد يحيى والكتاب من منشورات دار أراس للطباعة والنشر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2012

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة