باب المتاهة.. باب الطباشير (محاكمة ذكاء القراء)

نصيف فلك

لدينا تخمة في الغيبيات تبدأ من رأس الفجل الى مجرة درب التبانة، كل ما في الارض ترجع تبعيته وأصله للسماء حتى ورق الشجر واعمق الافكار. شارعنا يمور بالغيبيات من ذرة التراب الى أبشع الحروب وكأن الله تورط وصار رب فهم ينسبون له كل الجرائم والبلاوي والمصائب والطامات بل حتى برامج التلفزيون من صنعه. حالما ترفع أي حجر سوف يقفز بوجهك الغيب ويجرحك فيأتي الكاتب احمد سعداوي بروايته الاخيرة (باب الطباشير) ليغيبنا في الغيبيات أو الحزورات لأننا حال الانتهاء من الرواية وغلقها لا نعرف : هل البطل يعيش احداث الرواية في غيبوبته عند اطلاق الرصاص على رأسه ولم يمت، أم هناك فعلا تعاويذ وابواب سبعة طباشيرية ندخل فيها من عالم الى عالم بمجرد قراءة التعاويذ، أم هي لا أكثر من خيال البطل (علي ناجي) في تجسيد سيناريوهات سقوط السلطة البعثية والحروب الاهلية والاغتيالات وقصص الحب والجنس. الحق الحق أقول لكم :بقينا لا نعرف الرأس من الرجلين في رواية (باب الطباشير). كم تمنيت الدخول في فنطازيا سرد يشبه ألف ليلة وليلة ولدينا سبعة أبواب طباشيرية يمكن اللعب فيها ما نشاء من قصص غرام ومغامرات وعبث حروب وغرائز قتل ومجاعات وامراض برص وطاعون وكوليرا ومجازر الطائفية. لقد دخل الروائي الى مناخ الفنطازيا لكنه خرج منه بسرعة وكأنه يعتذر عن مواصلة السير ليعود الى سيناريوهات الواقعية التسجيلية للسقوط والحرب والطائفية ومؤامرات السلطة. بقينا محبوسين داخل صبات المنطقة الخضراء، وداخل غيبوبة البطل وقصص حب مشوهة.
لغة احمد سعداوي لغة صحفية قح وتقريرية ناشفة تخلو من لغة الادب وفن السرد الروائي، ظل ينساق مع اخبار الاحداث واخبار التفكير في عقل الشخصيات ونسي بديهية سؤال : كيف أكتب مركزا على سؤال لماذا أكتب، ومع ذلك كان ينسى حتى هذا السؤال، وهناك الكثير من الامثلة:( اللمسة الاولى للأشياء تختصر الاشياء كلها) و( الاحاديث المتشعبة عن حياتهما التي تشعبت خلال تسعة عشر عاما) وتزخر الرواية بالكثير من أمثال هذه. لذلك اقول دائما : من لا يمتلك لغة الادب والفن يضيع في التقريرية والصحافة، لكن مشكلة رواية (باب الطباشير) ليست في لغة الصحافة وحدها بل في العقل الصحفي، الذي هيمن على العقل الادبي والفني.
كما ان شخصيات الرواية مهلهلة ومتشرذمة على شخصيات نعرفها بحيث لم تمكث أي منها في اذهاننا بعد غلق الكتاب، كذلك نلاحظ وجود أكثر من ملامح للشخصية الواحدة فنتيه في رؤية الوجه والسلوك والتفكير والنوايا. ان ضعف رسم الشخصية بين وواضح لانشغال احمد سعداوي في اللعب الشكلي والتقني الذي ضيع الرواية في متاهات الحذلقة العقلية والصنعة الشكلية، وترك جوهر اللعب السردي، فقد أخطأ الروائي في عدم فرز سجناء الرأي عن سجناء الاحكام الجنائية فلا تختلط جرائم القذف وشتم الرئيس مع بقية الجرائم العادية.
يشعر القارئ بأن رواية (باب الطباشير) تنتهي طبيعيا عند موت البطل (علي ناجي)، ولم تكن بقية فصول الرواية سوى مقالات صحفية وسيناريوهات تخيلها الكثير من العراقيين بل وصارت (يخني) لتكرار تداولها بين الناس. وهناك خطأ تقني آخر أثناء وقوف (علي ناجي) فوق جسر الجمهورية على موعد مع أعضاء (جمعية المنتحرين) لتنفيذ الانتحار حسب الموعد والاتفاق المضروب بين اعضاء الجمعية. هذا الجسر قريب من القصر الجمهوري/ مقر السلطة الرمزي، وهذه المنطقة محظورة على جميع العراقيين منذ السبعينيات وحتى سقوط النظام فلا يتجرأ احد عبور جسر الجمهورية في النهار بدون خوف وتوجس، كيف اذن الوقوف في منتصف الليل وسط الجسر وبصحبة مجموعة من الشباب لم يأتوا ليوم الانتحار، ولا اعرف لماذا الاصرار على هذا الجسر رغم وجود جسور كثيرة ينفذون فيها انتحارهم بيسر ودون عراقيل، وفعلا هناك ناس انتحروا من بقية تلك الجسور. مستحيل ان نتخيل شخص مثل( علي ناجي) يقف بمنتصف الجسر هذا ولا يفكر برجال المخابرات والامن المتواجدين على مدار الساعة في مراقبة المكان.
كذلك هناك الكثير من العبارات الركيكة والسخيفة مثل (ظل نمضي ص 65) ، وهناك إلتباس في جعل عام (2013 ) عام هدوء وأمان، وهو تفكير شخص لا يعيش هنا في العراق وعبارة (يشتم السلطة سرا) في حين يشتم الناس السلطة جهارا وعلنا في النهار والليل، وهناك مظاهرات في ساحة التحرير اختصاصها شتم السلطة والمالكي تحديدا فيقول الكاتب (…، أي2013 لا يبدو ان شيئا قد تغير بشكل جذري، الناس تمتدح الامان والهدوء، وتستمر في الوقت ذاته بشتم السلطة سرا). كما يوجد خطأ في مفردة (ميليشيات) عندما يقول(….مع التقدم الحماسي لميليشيات الشيعة المنتفضين) إذ لم تتشكل آنذاك أي ميليشيات في انتفاضة سنة 1991. وفي فصل (المتجول بين العوالم) يذكر الروائي إيران مئات المرات كحليف للشيعة ولا يذكر السعودية مرة واحدة لكي تتساوى كفتي ميزان الطائفية. ثم انه فصل يمكن وصفه بـ (الخرط) حسب تعبير اللهجة العراقية، لأنه مجرد حشو فائض ومضر ولو حذفه الكاتب سوف لن يؤثر على سياق الاحداث بل ينفعها ويرشق الترهل السردي في صفحات الرواية. وهنا نعيد القول بأن الرواية انتهت فعليا في ص 45 مع اطلاق الرصاصة في رأس البطل، لكن مع شديد الاسف، بقي ما وراء هذا الفصل مجرد هراء مثل فصل ( المتجول بين العوالم) الذي يضم مجموعة سيناريوهات سقوط السلطة بمختلف زوايا الخيال والتصورات، التي اشبعتها الصحافة وافلام الفيديو مع الفيسبوك وتويتر ، حيث بقيت كل هذه السنوات تلهمنا يوميا بسقوط جديد ولا يزال النظام يسقط الى هذه اللحظة.
وصلنا بالقراءة الى صفحة (140) ولا نعرف أي شيء عن باب الطباشير ولا التعاويذ السومرية السبعة وكيفية التنقل فيها أثناء النوم، وبقيت الكثير من الاسئلة الكبرى معلقة بلا جواب، خاصة عملية إقناع القراء بوجود مثل هذه العوالم السبعة والابواب وحقيقة التعاويذ لكي نصدق مع الروائي ومع الشخصيات ما يحدث على الورق. لقد اتخمنا الروائي بالاستطرادات على امتداد عشرات الصفحات المملة والسقيمة، كلها تخوض في هراء الانقلاب العسكري، وهو سيناريو عبثي وفاشل وغير مجدي وغير متوقع بالمرة، لكننا محكومين بالضجر في مواصلة القراءة لنعرف الى أين يصل بنا احمد سعداوي في متاهات (379) صفحة.
أما فصل (ميدان التفريغ الطائفي) فهو مستوحى من فيلم هوليودي تدور احداثه في مدينة امركية تحاول السلطة فيها السيطرة على الجرائم وتخفيض نسب اقترافها من خلال سن قانون يبيح القتل في ليلة واحدة من السنة تبدأ من الغروب الى شروق شمس يوم جديد، وفكرة الفيلم مستوحاة أيضا من التطهير الارسطي في المسرح الاغريقي في أثارة عاطفتي الخوف والشفقة، وبهما يتم تطهير المتفرجين من العواطف السلبية، وهذا الفيلم يصور حوادث القتل في هذه الليلة لتطهير الناس من غريزة القتل من خلال إشباعها في هذه الليلة السادية، في هذه الليلة القتل لا يعتبر جريمة ولا يحاسب عليها القانون. كذلك يحاول سعداوي مجاراة الفيلم في فصل (الميدان التفريغ الطائفي) من اجل التطهير من الجرائم الطائفية بمشاهدة النزال الطائفي لقتال يشبه المصارعة في المسرح الروماني أمام جمهور من كلا الطوائف.
في الرواية ابواب طباشيرية سبعة تكشف لنا عرضا ان للانسان سبعة ارواح وذوات في العوالم السبعة، حيث تنتقل الروح في العالم الاول الى الثاني أثناء النوم وربما تتيه الروح بين هذه العوالم، وهي تذكرنا بخرافة قصص العجائز عن القطط وأرواحها السبعة. طبعا، عملية الانتقال والحلول غير مفهومة وليس هناك توضيح يدلنا عن العوالم السبعة وينجينا من الضياع.
لقد ورط الروائي نفسه في الدخول الى متاهة غير مقنعة ولا جميلة وخالية من الاغراء ومتعة القراءة، كما ورط معه القارئ في دخول غير مأمون لهذه المتاهة، متاهة بقيت بلا مخرج أو بوابة أو أمل للخلاص منها، أو حتى مجرد باب طباشير للخروج مثل باب الدخول. واخشى بأن جميع القراء محبوسين هناك، وضائعين في متاهة رواية (باب الطباشير) ولا أمل بخروجهم منها سالمين، وها هم يبحثون.
هذا اللعب الفكري العويص وغير المتقن والخالي من لذة اللعب الحقيقي يعرفه الكثير من الكتاب، وربما بعضهم يعرفه عن ظهر قلب، لكنهم حذرين من إلغام الدخول لمثل هذه المتاهات، ويتحاشون وضع القدم فوق فخ الحذلقة والتبجح بالعمق مثلما سقط الكثير في تقليد رواية هيرمان هيسه (لعبة الكريات الزجاجية)، هو تقليد سردي مغشوش بايهام القارئ: ان الروية فوق مستواه في حين هي فخ اعتباطي وشرك سردي لمتاهة فشل دائري بلا باب ولا طباشير.
18/2/2017

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة