اسماعيل ابراهيم عبد
« الطبيعة من الناحية الواقعية أحد أقدم المنتوجات الثقافية ,.. وكأعضاء في كلٍّ من المجتمع الأدبي والمجتمع الحيوي يجب أن ندرك أن العالم الطبيعي يوجد من أجل أغراض تتعدى أغراضنا الخاصة « ( ).
على وفق مبدأ التوازن البيئي فنيا قمنا بتشخيص بعض الملامح العربية للرواية الايكولوجية, نعتقد بجدواها لتمييزها عن غيرها من الروايات المحلية والعالمية. تلك المتصفات هي :
1 ـ تهتم بموضوع البيئة , المناخية والتضاريسية , كمعامل موضوعي اول في الاشتغال. 2 ـ تنمي الرواية بيئة فطرية تجمع بين بيئة الحضارة الفطرية للانسان والفطرة الحامية لمكونات البيئة غير العاقلة .
3 ـ غالبا ما تنتمي الى موضوعة الطفولة والحكايات الرهينة بها دون الاعمار الاخرى . 4 ـ لغة الروي واسلوبه تعتمد الممازجة بين العقلي والاسطوري من القول عبر جمل قصيرة , ايقاعية , واضحة , تتوسط المسافة بين الشعر والنثر .
بروايته أحفاد اورشنابي ( ) , هيثم بهنام بردى يشكل للمتلقي بيئة متضافرة العناصر , (ثقافياً واجتماعياً) , إذ أن الارض في جدبها تساير الناس في ضيمها , والتضاريس بارتفاعها تساند شموخ سكانها , ثم تساند الأرض جهد أبطالها فتغني بيوتهم بالحطب والقمح والصيد والجمال .
هي إذاً بيئة علائق فطرية تنشد بؤر ـ العمق ـ التضامني للنِعَم الربانية الموهوبة للبشر . لنساير الرواية في رؤاها تقصياً للحدود البيئة المتخيلة فيها , على وفق العلائق التي تسبر غور الغايات الكبرى لبيئة المؤلف ومحيطه البشري.
لقد تتحددت البيئة الجغرافية للمكان في الرواية على أساس أنها بيئات ثلات هي : الريف المحيط بجبل مقلوب , القرى (ب , ك , ع) , القريبة من ارياف مقلوب , مركز الموصل الاداري .
ويغيب عن هذه القرى والمركز أي تعاون اقتصادي , إلّا نادراً , ليلوّح الروائي الى فترة جدب وفقر شديدة , لا يمكن أن تكون العلاقات سوية أو طبيعية , إنما قائمة على العلاقات الحميمية للقرابات القروية : قبلية عشائرية , أو علاقات قائمة على أساس الجريمة من (سطو , قتل , رشاوى , اضطهاد , تسليب رسمي وغير رسمي).
اننا نرى في الموجودات المادية (القرى , ومقلوب , ومركز الموصل) وجوداً لا يكتمل إلّا بما يضفي الناس عليه من وظائف , والوظائف في الرواية افعال العيش ضمن المحيط . إنها أعمالهم التي تتضمن الآتي:
1ـ القرى متلاحمة المهن والمصير , إذ المهن هي الفلاحة والاحتطاب والصيد . اما المصير , فهي تقع تحت نوعين من الاضطهاد , التعسف في القتل , التعسف في سلب ثروات الفلاحين .
قرية (ب) سنأخذها انموذجا توضيحياً :
[كان هناك ضيعة اسمها (ب) على قدر كبير من الابهة … ترتكن على تل عال كبدر البدور بكل جلال … تنعقد سنابل الحنطة والشعير وتثمر الغلال , وتكتسي الارض بكل الالوان … في تلك الاعوام ولدت اربع نساء …اربعة اولاد هم: يوسف , خضر , فاضل , ويونس … كتب الله لهم … الحياة الضاجة , وعدم الخذلان واقتحام المصاعب . ـ أحفاد اورشنابي, ص13] .
2 ـ تتساند القرى مع بعضها في زرع الوعي بينها في التحريض على المقاومة بالرغم من عدم تكافؤ القوة بينهم وبين سلطة الحكام وأزلامهم :
[صحونا أخيراً لنجده (يُقصد المختار) قد أصبح المالك الأوحد لجُل الأراضي , والغني الأوفر في (ب) , ثم أخذ يتزلف الى الاغوات ـ في المدينة ـ الأتراك ويولم الولائم والسفر الى البساتين , حتى بلغ وطره وفاز بمبتغاه وعينوه مختاراً على القرية .
ـ رواية احفاد اورشنابي , ص77 , ص78]
3 ـ تنتظم حركة الوعي عبر تشابك قوى فقر البيئة وقوتها اللامحدودة مع فقر الناس ومرؤتهم اللامحدودة :
[وأقبل آذار بأيامه الدافئة ولياليه الباردة , لقد تبددت آمالنا الواهية في هطول الغيث وانصب جُل تفكيرنا في الاقتصاد بالمؤونة التي وضعت تحت إمرة شاكر ,.. صارت الأرض رمادية ذات تراب حريف لاذع وأجردت البساتين كاشفة … عورتها . أحفاد اورشنابي , ص86]
4 ـ تتزامن افعال الاضطهاد على القرى والمدن مع التحكم الأجنبي بالموصل بما فيها من (قرى , ومدن , ومركز):
[هبوطا كنا من غيران الجبل نعاين … شباب القرية الصغار وهم يساقون عنوة مربوطين بحبل , أحدهم تلو الآخر … الصحراء تسبح في الغلسة … السياط المشهرة … تؤشر نحو الغرب…
قُتل يوسف ونحن في مهمة في قرية (ك) المجاورة.
كانت مهمتنا ناجحة حيث أقنعنا أُناس القرية بالتعرض لمؤونة الانكليز من الموصل وتدميرها . ـ احفاد اور شنابي , ص91 , ص92, ص101 , 102]
5 ـ يتعاضد وعي القرى مع النِعَم الربانية في تحسس الجمال المظهري لمكوني الطبيعة (التضاريس والغابات) :
[النار فاكهة الشتاء … والنار تحتاج الى حطب , والحطب عند مفازة الجبل … في بداية سقوط أوراق الشجر … عادة ما كنا نحتطب … نبدأ الرحلة , يستقبلنا الخان القديم المتداعي النائم بإعياء … نسجت عنه الحكايات … ونحن في طريق العودة… وطئنا مشارف الخان المتداعي … وقفنا مبهوتين … , كانت (ب) عن بكرة أبيها عند الخان… قام الزمار ينفخ والطبال يدق , وانعقدت حلقة دائرية كبيرة من الدبكة…
صرخت مذهولاَ :
ـ عرس! ـ رواية افاد ارشنابي , 30 , 31 , 32]
ثانياً : ايكلوجيا الأنسنة
لهذا الاتجاه في رواية أحفاد أورشنابي مبدأ خاص هو اعطاء البطولة لمكونات التضاريس (البيئة غير العاقلة) , تضعها عنواناً مثلاً , وتستعين بها ككابح للمعتدي .
تنسب الابطال الى الجبل كأنه هو الأب الموجه لأبنائه الرجال الابطال , إذ وُضِعَ للفصل الثالث عنوان (رجال المقلوب) تأكيداً لما لجبل (مقلوب) من دور أساسي في رسم جغرافيا المكان والحركة والتاريخ والبيئة الحاوية لما فوق وتحت وبجوار الجبل (مقلوب) .
يقول الجد :
[احتمينا تحت صخرة عملاقة والصمت يصفد حواسنا إلى أن همس يونس :
ـ سنصعد الجبل .
ـ ولكن فرادى .
قلت لهم .
فيما أسر فاضل وعيناه تجولان في رأسه بجنون :
ـ والتجمع عند شجرة الزيتون .
بينما استطرد يونس :
ـ قبل ان نتفرق يجب ان نتفق على كلمة السر , كي لا نصطدم الواحد بالآخر.
أجبت على الفور :
ـ لتكن كلمة السر زيتون .
وتفرقنا على ثلاث جهات , يونس من جهة الساقية , وفاضل من الجهة الغربية , وأنا من التل المطل على القرية من عل . احفاد اورشنابي , ص102]
لنستجلي الموقف الاستعمالي للغة الايكلوجيا في المشهد عبر الملاحظات الآتية :
1 ـ المشهد يربط بين قوى الطبيعة كأنها هي الأبطال لا البشر , وقوى الطبيعة تضم جبل مقلوب وتلاله وقراه .
2 ـ الافراد الابطال أبطال شجاعة ومواجهة لا أبطال قص فقط , وحتى البيئة اخذت تتواشج معهم بذات القدر والقدرية إذ هم :
ـ يحتمون بمقلوب , يصعدون عبره نحو اماكن الرؤية الواضحة .
ـ يرسمون خطط المقاومة على ما يوفره مقلوب من طبيعة مختلفة السطوح والفجاج تساعد على المناورة.
ـ مكونات الجبل النباتية تصير رمزاً لشجاعة الفرسان وكلمة سر بين المحاربين . ـ شعاب وجهات الجبل تصير خطوط نضالهم ومرتسمات حركتهم في الاستطلاع وتفقد القرية من علٍ .
3 ـ أرى أن هذا لا يكفي ليصير (مقلوب) بطلاً لولا التسمية (اورشنابي) قائد وملاح اتونبشتم الذي تشبث بالغصن الأخضر للزيتون , أي أن مقلوب (الرمز والوجود) صار البطل الموجه القائد , الغص الباحث عن خلود الفعل الانساني , على ما هو عليه من فطرة وعفوية تخص التضحية والدفاع عن النفس , من ثم صيغ الحس الفطري بفلسفة (العمل الحضاري) الذي وحده من يوعز لأطرافه , أن حققوا لهم ولغيرهم بيئة (جمال ومنافع , دونهما الموت) لأجل أن تثبت قيم الحفاظ على التبادل المصيري المتعادل للنشاطين (العاقل وغير العاقل) , للجماد والحركة والاحياء كلها .
«1» هيثم بهنام بردى , رواية احفاد اورشنابي , دار ثقافة , بيروت , 2015
«2» مايكل برانش , الطبيعة في النظرية والممارسة الادبيتين , ت. معين رومية , موقع المترجم , بتأريخ 12/6/2017
«3» رواية احفاد اورشنابي : 76