فعل السرد في متواليات (حامد فاضل) الحكائية

علوان السلمان

..تنوع الاشكال السردية بنائيا..وتشكل رؤاها التعبيرية جماليا.. استفزاز لذاكرة المستهلك(القاريء) لاستنطاق ما خلف الالفاظ والمشاهد لتحقيق المنفعة الفكرية عبر التساؤلات التي تثيرها التجربة الابداعية القادرة على التخييل والخلق المساير لحركة العصر عن طريق التوليف بين الافكار من جهة..والمتعة الجمالية التي تعد الاساس النفسي لتحريك الساكن الذهني من جهة اخرى..
وباستقراء وتأمل المتوالية الحكائية(الف صباح وصباح) مستندين على معايير فنية واسلوبية تنصب على الجوانب الدلالية والتعبيرية لتحقيق قراءة موضوعية لعوالمها ومكوناتها..بصفتها نمطا سرديا متفردا بخصوصيته على مستوى التقنيات الكتابية والشكلية..ابتداء من العنوان العلامة السيميائية التي تفصح عن مجالين منسجمين بفعل الوظيفة لكنهما مختلفين في مجالهما الواقعي.. التطبيقي.. فأولهما ينتمي الى عالم المعرفة التاريخية التراكمية..وثانيهما ينتمي الى عالم الطبيعة..والتشكيل الكلي بفونيماته الثلاثة جملة الاسمية مضافة ومعطوفة.. يجر الذاكرة تناصيا صوب النصوص الحكائية لـ(الف ليلة وليلة)..مع تبادل الادوار في الشخوص(شهرزاد تحكي لشهريار)و(السارد يحكي لشهرزاد)..(ساستهل حكايتي مثلما كنت تستهلين حكايتك..) ص2.. مع اختلافهما زمانيا(شهرزاد ليلا والسارد صباحا) ومكانيا(مكان مغلق شهرزاد ومكان مفتوح السارد)..
انت
والملك
والليل
والحكايات
على موعد
وانا
وانت
والصبح
والحكايات
على موعد /ص28
فضلا عن اعتماد القص بنية اطارية استهلالية انحصرت في استدعاء شهرزاد للاصغاء للمروي المتناسل من لسان راو اخر..(ياسيدة حكايات الليل..هكذا يعلن الصباح عن نفسه ليستهل يوما بدويا جديدا يلحقه بقافلة عمر الصحراء..وانا المرواتي الذي تعودت ان تجيئي الى خيمته كل صباح ليفطر سمعك بحكاية جديدة استهلها فأقول:بلغني ايتها الراوية السعيدة ان رجلا حضريا كان يجوب بسيارته بادية السماوة العتيدة..ساترك لو سمحت ـ راوي الحكاية يروي حكايته..) ص20..
والتي انتجت عوالمها الحكائية بوحدة موضوعية وتكامل درامي وسردية فنية ذهنية ناضجة سرديا نسجت عوالمها انامل القاص حامد فاضل واسهم الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق في نشرها وانتشارها/2017.. كونها مغامرة تجريبية متجاوزة ببنائها السردي المشحون بالايحاءات الخالقة لمشاهدها التخييلية ومواقفها الانسانية التي تصور في حكاياتها الثلاث عشرة واقعا مأزوما يشعر فيه الانسان بالاغتراب المجتمعي والمكاني..
(ساستهل حكايتي مثلما كنت تستهلين حكايتك فأقول: بلغني ايتها الراوية السعيدة ان بدوية معمرة رشيدة عاشت ببادية السماوة العتيدة حكت لاحفادها قرب موقد الشتاء حكاية عن صبية قصدت البئر تستسقي ذات صباح فقالت:الليل قوض بيته وراح ينأى تاركا وشما من الغبش الشفيف على التلال..وبدا لعين الافق بيت الشعر خالا فوق خد من رمال..وعلى ضفاف الفيضة الخضراء حطت قبرات واختفت في فروة العشب المبلل بالندى..وتطلع الصقر الذي يختال اعلى وكره بالحبارى العائدات الى الديار..لعل احداهن تنظر في عينيه فتعرف انها طريدته..سيفصلها الخوف عن سربها..تحط ..تحلق ..تناور..تهرب..تدافع..تتخبط.. ترشقه بالذروق.. لكنه في آخر الامر يصطادها لا محال..وسيفرد النسر جناحيه.. يبكر في ارتقاء الجو بحثا عن طرائد..ولربما انسابت افاعي الرمل نحو جحورها ملأى البطون..أو قد يمد الضب كفا كي يعيد حصاته التي تركت طوال الليل خارج جحره ويروح يلحس ما تجمع من ندى فوق الحصاة.واذا هوت من فوق(كارتها)=(المكان المرتفع) القريبة حجارة..سحلية ستزوغ عنها ويختفي اليربوع خوفا من الكلب السلوقي المفكر بالفطور..الليل ولى ساحبا أذيال ثوبه..وكائنات الليل تتبع ليلها..والفجر يختال بخطو وئيد لتستهل الكائنات نهارها..هي سنة الصحراء مذ وجدت..لا آكل يبقى ولا مأكول) ص12 ـ ص13
فالنص ينصب في خانة الواقعية الغرائبية التي تتلبسها في بعض مفاصلها نوع من الايهام لكسر رتابة التوقع باعتماد مقاربات اجتماعية مع توظيف امكانات التشكيل الذي يمتلكه السارد من تفاصيل الحياة….مستخدما له التقنيات الفنية (لغة دالة ومدلول رامز وقراءة تنطلق من واقع اجتماعي ومكان مفتوح متمثل ببيئة صحراوية بكل موجوداتها التي شكل الذئب بؤرتها..كي يحقق الانتقال من التسجيلية الى الرؤية الفنية بلغة تصنع الغرائبي من المألوف ويجمعه في بؤرة عالمه السردي المليء بالحركة والحيوية المتدفقة..فضلا عن انفتاحه على تقنيات السرد البصري الذي يستدعي المكان..الوعاء الفكري الذي تتحرك فيه الشخصية وتتفاعل معه فتستجيب له وتتأثر وتؤثر به..حتى ان سطوته تتعدى الواقع الى اعماق التكوين النفسي للشخصية..لذا يوظفه السارد وموجوداته في سياقاته الدلالية والتعبيرية والجمالية النابضة بالحياة..
(لا اريد ان اطيل عليك..أرى الشوق في مقلتيك..فانظري هذه الحكاية آتية بيضاء مثل غيمة في الربيع.. استهلها بالقول: بلغني ايتها الراوية السعيدة ان بدوية معمرة رشيدة عاشت ببادية السماوة العتيدة..بدوية حكاءة كعين نضاخة لا تنهي حكايتها الا لتنسج غيرها.. لنتخيلها معا أغمضي عينيك أترينها؟ هناك قريبا..هناك في الفيء بين الخيمة و(الرواك)(سياج يوضع حول الخيمة) ..انظري أترينها جالسة تحكي لاحفادها حكاية الوسم..والوسم اذا كنت لا تعرفين رمز يطبع بالكي على افخاذ الابل ليشير الى مالكها..لكن وسم بدويتنا لم يكن على فخذ ناقة او جمل.. لقد كان ياسيدتي على فخذ ذئب..نعم ذئب..ما لوجهك غار الدم عنه.. وما لك ترتعشين؟..لا تخافي اطمئني فلخيمة الحكايات لا تجيء الذئاب..هات يدك..قومي لننظم الى احفاد تلك البدوية..أترينها؟ تلك العجوز المزنرة باحفادها هي ذاكرة البادية..دعينا ننصت لحكايتها..ها لقد بدأت بالحكي:أتسمعينها وهي تقول: كنت في صباي من النساء اللواتي يقال عن واحدتهن هذه امراة تساوي الف رجل..لاني لم اكن اعرف الخوف او التردد..وكنت(الوضحة)= الناقة البيضاء.. في الجمال..الخيزرانة في الاعتدال..الضبية في الدلال..) ص29 ـ ص30..
فالخطاب السردي يعلن عن تجليات الذات وصيرورتها من خلال افراز الوعي الجدلي..بلغة متفجرة الدلالة المرتكزة على خصوبة المعنى..عبر تقنية الحوار بشقيه(الذاتي والموضوعي) الذي يكشف عن دخيلة الشخصية التي تتحرك في امكنة مجردة تفعل فعلها بغياب صوت الراوي العليم..
فالسارد يعتمد اسلوب السرد المشهدي والمسرود الذاتي مع توظيف تقنيات فنية واسلوبية..اضافة الى استنطاق الذات والذات الجمعي الآخر من خلال الذاكرة.. مما منح النص سلطته المميزة بالصدق الشعوري والواقعي بموضوعاته الانسانية والاجتماعية..فضلا عن توظيفه اسلوب الاستفهام الباحث عن الجواب لتوسيع مديات النص..وهناك التنقيط(النص الصامت) الذي يشير للمحذوف من الكلام مستدعيا المستهلك لملأ بياضاته..وهناك الهامش الذي شكل جزء من المتن واضافة خلاقة اضفت سمة جمالية على البناء النصي..
(حين خرجنا من البئر عرفت من المترجم ان الرجل الاشقر كان يعني بصراخه(وولف..وولف) ان هناك ذئبا في البئر..وطوال طريق العودة الى خيمتي ظل الرجل الاشقر يرطن بلغته والمترجم يستمع اليه والدهشة تلون وجهه وهو يترجم لي ما يحكيه الرجل الاشقر..قال: اخبرني هذا الرجل انه ما ان وصل الى حافة البئر الداخلية وسمع صوت ثجوج الماء حتى دهمت عينيه صورة ذئب اشقر انعكست في ماء البئر الذي لا يعرف قراره..فغر الرجا فاه على صرخة خرساء قابلها الذئب بعواء أصم أذني الرجل..انا وانت لم نسمع ذلك العواء..لكن الرجل يستغرب كيف لم نسمعه..)ص110..
فالخطاب النصي يغلب عليه التوتر والثنائيات الضدية التي منحته حركية دينامية اسهمت في استفزاز ذهنية المتلقي..مع الافضاء بالمشاعر المتدفقة عبر ضمير المتكلم الـ (نا) الكاشف عن الراوي العليم الذي يستعير من الشعر التوتر والايحاء ومن الدراما الحوار..مع صياغة اسلوبية تطغى عليها تقانة الانزياح..
فالسارد يقيم صراعا عبر حوار ذاتي..تأملي.. بخطاب تتداخل فيه السردية ببنية درامية متنامية..اضافة الى معالجته شكلا من اشكال الاسقاط النفسي..مع محاولة اضفاء مسحة من الترميز وهو يصور هواجس شخوصه الداخلية..مع تركيز على الجوانب المعتمة في الانسان الذي يبرز كوحدة اساسية بتكنيك يكشف عن نفسه من خلال رحلته معه..
ومن خلال كل هذه المقتبسات النصية تظهر قدرة السارد المنتجة لصورها الفنية باستخدام طاقات اللغة وامكاناتها الدلالية والتركيبية في البيئة السردية مع تميزها بالدفق الخيالي والغرائبي..
فقدم ابداعا نصيا متواليا يسير فعل السرد فيه بمستويين:اولهما المستوى الذي شكل بنية السرد وتراكيبه وسماته..وثانيهما: المستوى الذي شكل البوح الذاتي وطغيان صوت السارد العليم..

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة