أمينة الحامدي
يُحدّق فيّ بنظرات حائرة ويهمس بصوت خفيض: «حدّثيني عن الشكّ. حدّثيني عن الإنسان يطلب المدى وما هو ببالغه. يطلب الجنّة فتتراءى له جنّة لصوص، يطلب ذاته علّه بها يكون، لكنّ الشكّ كعسس السلطان، كحرّاس السّماء، يخلعه عن نفسه دون ترفّق».
أهمّ بالكلام فأغصّ، يناولني كوب ماء كان قريبا منه. يُهرّب بصره إلى الخارج عبر النافذة: «كأنّنا في سجن يا «يمّ»، أبواب مُغلّقة، نوافذ بقضبان من حديد. كيف يصل النّور إلى أرواحنا ونحن كالخفافيش؟ الأزهار في الأصيص المعلّق على الشرفة المقابلة قد يبست».
«في النهاية سييبس كلّ رطب فينا ونندثر». أردّ.
يتلفّت ناحيتي: «ها إن دموعك تسحّ مرّة أخرى دون سبب. لو تعلمين شوقي لهذه الدموع، تنزّ من عيني فتُخمد النّار التي تأكل روحي. لكنّ الماء نُذر غضب السماء. سأطلب نارًا علّها تطهّرني، وتطهّر هذه الأرض من رِجْسها. الجُمعة الماضية إمام حيّنا قال إنّ زلزال العاصمة كان نتيجة كُفرنا بالنواميس وجرأتنا على الله. ولا عاصم لنا من غضبه إذا حلّ. علينا بالاستغفار، والصلاة آناء الليل وأطراف النهار. هكذا يقول الإمام. لكن مُذْ جاورت المسجد استحال ليلي كوابيس مُرعبة يا «يمّ». زوجتي تقول لو صلّيت مع الجماعة لذهب بأسك. أحسب أنّها ستطلّقني لو أفضيت لها بما في نفسي».
يشدّ على يدي اليسرى: «أنت بخير الآن، حدّثيني… لن يغصّ الكلام في حلقك هذه المرّة. أنت ذكرى الزمن الحُلو… فحدّثيني يا «يمّ».»
«لقد صيّرتك الأيّام طفلا لحوحا يا عليّ، هذه كلمات كتبتها البارحة، هي لك، خذ واقرأ. لا حاجة لي بالكلام الآن». أردّ.
[الشكّ… فعل مؤلم، فعل يستفزّ الذّات، يرجّ يقينياتها الّتي طالما اطمأنت بها ولها. فعل يخِز العقل فيشتدّ وجعه، ولا يستكين إلاّ وقد حطّم ذلك السدّ الذي ظلّ يبنيه منذ أن ألقي في هذا الكون إلى الموات. سدّ تخيّر له من الحجارة أصلبها حجر الصوّان، رصفها رصف معماريّ متمرّس طوال سنيّ حياته حتّى استقام بناء عظيما. نمت فيه وشبّت طحالب قاتلة. لكن عندما يُتمّ عمليّة الهدم سترجّ الذّات وتتخلخل مرة أخرى، ليسحبه دفق السيل بعيدا. حينها سيرى كلّ شيء في عالمه قد بات مقلوبا.
الشكّ مطرقة فولاذيّة عظيمة تهوي على رأسك بقوّة لتقسم جُمجمتك نصفين. حينها سترى نفسك مترنّحا تتهادى كالسكارى وما بك من سُكر. تنظر ناحية النصف الأيمن من جمجمتك – تردّد بينك وبين نفسك اللّهم اجعلنا من أصحاب اليمين- فترى زوايا مُعتمة عشّش فيها العنكبوت ونسج شباكه حولها بإحكام، فهُصرت وعُصرت حتّى فسدت. بالتمعّن أكثر سترى ذبابا وبعوضا وجُثثا مُتفسّخة تنبعث منها رائحة العطانة والموت. تعلوها حُلّة من الخزّ فيُخيّل لصاحبها أنّها مُروج خُضر ووُرود مُتفتّحة تفوح شذى، وما هي كذلك. بُحيرة راكدة انقطع عنها ماء الحياة، فراحت تبتلع كلّ مَنْ همّ بالاقتراب.
أمام هول هذه المشهديّة ستُيمّم وجهك ناحية النصف الأيسر من جمجمتك المُستباحة، بداية سيطالعك ضُمور، ستفهم حينها لم كنت تنظر دون أنْ تُبْصر. فالسّوس قد أوغل فيها والتهم أدقّ خلاياك. والنّمل الأبيض أتى على البقيّة الباقية منها وشيّد فيها مُستعمرات لعشيرته الملكيّة.
في لُجّ حيرتك سيهجس لك قلبك أنْ عليك بالرتق قبل أن يتّسع الفتق. أُذناك ستمنحانك إمكانات أخرى للنجاة، ستُخبرانك أنّ الكون برمّته يحدّثك ويتلو عليك آيات عظيمة، فقط أنصت بروحك وانظر بعين قلبك وإيّاك والفتور. سيرتدّ إليك البصر خاسئا وحسيرا مرّات ومرّات. ستشعر أنّ في أذنيك وَقْرًا، وأن بلسانك عُقدًا تجعلك تطلب الكلام فلا تجده. ستُغمْغِمُ كطفل صغير ضيّع أمّه بين الجموع، ستركض باحثا عن مخرج وحُضْن رحيم يبتلعك ويقِيك كلّ ذلك. لكن تأكّد أنّ ذلك هو الدّرب لتُبْعث من الأجداث حيًّا. ستُلِحُّ عليْك رغبة الهروب أكثر وتهمّ بالفرار من مشهديّةِ الجحيم المسعّر في رأسك المشروخ إلى نصفين. لكن كُن على يقين أنّ طريق الهُروب أَوْحش من أن تسلكه، كلّما خطوت خطوة ستحترق أصابع قدميك، ستزكمك رائحة اللّحم المشوّي والمتفحّم الّذي علق بحصى الطّريق المسنّنة كالإبر. سينخلع قلبك وتخرّ في هيئة السّاجد طالبا رفع البلاء. لكنّ سماءك دُخان كثيفٌ يشتدُّ سواده كلّما نظرت، يخنقك وما من محيص.
بين النصْف الأيمن لجُمْجُمَتِك والنصْف الأيسر مسافة وُجود، سيتوقّف الزمن عندها ليُصبح زمنا دائريّا لا تطوّريًّا، يُنتج نفسه دائما وأبدا في شكل مُسوخ مُرعبة. تنسل من رأسك، تحبو إلى حلقك لتُخرج من لسانك أشباحًا تلبس العمامة وتجرّ أثوابا بيضاء تُزيّن أطرافها حُمرة كالدّم].
يُطرق لحظة، ليقف فجأة، ثمّ يتهاوى دفعة واحدة على كرسيّ يتوسّط الغرفة. فتتراءى لي أمارات بقايا رجل ممزّق الأطراف، ابتلعته الخيالات. وكمن رأى ملك الموت مُمْسكا بأغلال من حديد، أخذته رعشة وراحت أسنانه تصطك.
«ها قد فُجّر عالمك الحميم وصار هباء منثورا… وها إنّ عفاريت الأرض تطلُبك وتُلحّ في الطلب. سَلْ الإمام سيُخبرك عن العفاريت التي تمتصّ رحيق الجسد. ستذوب عظامك يا عليّ، وستراها تقْطُر من بين أنياب صفراء معقوفة كمخالب النسور الجارحة».
«ألا تشفقين لحالي…! متى يكفّ هذا الذي يَحفر في رأسي ولو ساعة؟». يصرخ بأعلى صوته.
«هي لحظات ويصْمُت كلّ شيء، لا تعجّل. وفّر رُعْبك يا عليّ، ولا تكن رخوًا، شُدّ على قلبك صخرة حتّى لا يفضحك في العالمين». أردّ.
«أراك كاهنة يا «يمّ». متى رُفعت عنك الحجب؟». يسأل.
أردّ ضاحكة: «عندما وُلدت غسلتني جدّتي بماء السماء، في السابعة عمّدتني بدم ذئب جبليّ، وفي العاشرة شهدت طقس شواء الخنازير».
«هل حدّثتك عن الخنازير الضّالة؟».
«تهزئين منّي يا يمّ…؟ هل تُوجد خنازير ضالة وأُخرى غير ضالة؟ أتهذين أم مسّك بعض الّذي بي؟». يردّ.
«ما هو بالهذيان يا عليّ. أنا ابنة قرية جبليّة، قبل أن تبتلعني المدينة المقبرة. قرية استوطنتها ذئاب وخنازير كثيرة. لذا فالصيد والحرق مأثرة الرجال عندنا.
«كنّا نتحلّق نحن الصغار حول مشهد حرق الخنازير ونجمع الحطب لنذكّي اللهيب كلّما خفت. مرّة انفجرت أحشاء خنزير نسي والدي بقر بطنه، يومها تلطّخت بالدمّ الأسود، والتصق الجلد المتفحّم بوجهي. كبار القرية قالوا إنّي دُنّست وحلّت بي الشياطين. فربّما شياطيني هي الّتي تحدّثك».
«سلام لشياطينك. سلام لشياطينك الطيّبة يا «يمّ».»
يتحامل على نفسه، يرتدي معطفه الرماديّ ويغيب. وكان ذلك آخر عهدي به.