ديوان شعري عراقي جديد يفتح النافذة على العنف

عبدالزهرة زكي

خارج النافذة بقليل» ديوان جديد لشاعر عراقيٍّ شاب، حيدر قحطان، إنه من جيل أحدث، وهذا هو ديوانه الأول.
الديوان الصادر حديثا عن «شهريار»، في البصرة، لا ينأى كثيراً عن ظرف كتابة نصوصه في سنوات العنف في العراق؛ الحياة في أتون الموت، والإقامة في موضع الخطر.
اللون الأحمر للغلاف «تصميم صدام الجميلي» والرصاصة التي تتوسطه بأناقة، والرصاص يحظى عادةً بأناقته في حياة العنف، كافيان للتعبير عن عالم هذه النصوص التي يجرؤ الشاعر فيها فينظر إلى محيط حياته ووقائعه ويومياته من «خارج النافذة بقليل».
مواجهة بشاعات الموت والحياة في الخطر هي ما تتطلب هذه الجرأة التي بات الشعر العراقي، في طوره الأخير، أكثر تمثّلا لها وإفادةً منها، ليلحق به بعد ذلك الشعر في بلدان عربية أخرى، ربما في سورية يتجلى هذا الاهتمام الشعري بشكل أوضح.
يدرك حيدر قحطان مثل هذه المغامرة، في الحياة في أتون العنف والكتابة من داخل الأتون. سنقرأ هذا النص القصير الذي يتقدّم إلى قارئه بعنوان واضح الدلالة هو «من أجل أن تعيش»:
يجب أن تكون غير مرئي في هذا العالم.
غير مرئي مثل: كلمة (ألم) في فم شخص أخرس، كلما أراد النطقَ بها فقدت قدميها عند باب فمه.
لكن الشعر هو مسعى من سحر الإنسان، من قدراته الخفية، للإمساك بما هو حبيس في الفم، ولتحرير الحبيس من محبسه. ما يمكن أن يقوله الآخرون هو ليس من حصة الشاعر، الشاعر يقول ما لا يمكن قوله، ما قد يتعذّر على الآخرين قوله، ما يمكن أن يجعل الآخرين يؤكدون، إذا ما سمعوه أو قرأوه، أن هذا هو ما أردنا قوله ولم نقله.
يبدو لي أن نصوص هذا الديوان، وهي لشاعر شاب كما أوضحت، تقدّم نفسها بمستويين مختلفين. يكون الشاعر، في المستوى الأول منهما، معبّراً عن وقائع الموت كما هي في الشارع والتلفزيون والصحف وفي أحاديث الناس اليومية. بموجب هذه المستوى يكون الموت والقتل والتفجير مشاهدات، وتكون مهمة الشعر قريبة من مهمّة المصور والمخرج، ستكون المهارة في اختيار زاوية النظر. لكن في لحظات الموت مَن منا القادر على أن يختار زاويته المناسبة للنظر؛ النار والدم ودويّ الانفجار وحدها الحاضرة والموجِّهة للنظر والمتحكمة فيه، إنه نظرٌ بزاوية 360 درجة، وسيكون على الشعر، تبعاً لهذه العدسة وزاويتها المستحيلة، أن ينقّي وينظّف ويمنتج لضمان وظيفته كفن. لكن المستوى الثاني لنصوص حيدر قحطان الأخرى في هذا الديوان هي تلك التي يتوارى فيها الأثر المباشر للموت والتفجير والحرب والقتل؛ إنها نصوص تتأمّل وتفكّر بالبشاعة إنما بعيداً عنها، في خارج مكانها ولحظتها، حتى وإن كان قريباً منهما، من المكان الخطر ولحظة الخطر المباشر.
«في السينما، بدأت أشاهد صور الشهداء، في عرض تراجيديٍّ عن ماضي العراق واحدا تلو الآخر يمرّون أمامي، والابتسامة على وجوههم مثل هلال صغير. كنت قد بلغت السن التي تسمح لي بالجلوس في الصف الأول. في نفس الوقت كانت زوجتي تلد طفلنا الأول. مضت الأيام بسرعة، ووصل الفيلم إلى نهايته. والآن بلغ ولدي السنّ التي تخوله أن يجلس في المقعد الأمامي، ويشاهدني أختتم العرض، وكلّي ثقوب، مثل ناي كهل». نص بعنوان (المشهد الأخير).
ما هو مهمٌّ بمثل هذا الحال الذي يكون فيه الشعر استجابة لمؤثر خارجي ضاغط، وقاسٍ في ضغوطه، كظرف الحرب والعنف، أن لا يوقف الشاعر شعره لهذه الضغوط، لا بدّ له من تمثُّلها، ولكن لا بدّ أيضاً من عصيانها، خصوصاً بالنسبة لشاعر شاب هو أشد حاجة إلى التغيير والتجريب والتنويع. في ديوان حيدر قحطان يمكننا أن نشير باهتمام إلى محاولات ناجحة في بلوغ هذا التنويع. يبدأ الديوان بالشذرات، أو التوقيعات، التي جمعها عنوانٌ واحد «الألم لا يحتاج إلى مقدمات» واستهل الشاعر بها الديوان، وإلى التقنية الخاصة التي أخرجها بها. إنه يضع شذرةً، وينسبها إلى آخر مجهول؛ «ساعي بريد»، «لافتة معلقة على بوابة حديقة عامة»، «طفل يلعب بالتراب».. هذه التوقيعات لا تبتعد كثيراً عن الجو العام للديوان، لكنها تثري تنوعه، وتعطي مؤشراً طيباً عن حيوية تفكير الشاعر بالشعر وبوسائل بلوغه.
«خارج النافذة بقليل» يفتح النوافذ أمام شاعر شاب، ويضعه أمام هواء العالم، إنما بنقاء الشعر وليس بدخان الحرب

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة