“تقاسيم على الحياة”.. عزف حزين لأرواح محبطة مأزومة

سمير خليل
ساعة ونصف من الادهاش، ساعة ونصف حبسنا فيها الانفاس، ونحن نتابع عرضا مسرحيا محكما، محبوكا بثيمة راقية واداء رصين.
(تقاسيم على الحياة) عنوان العرض المسرحي الذي احتضنه منتدى المسرح التجريبي التابع لدائرة السينما والمسرح في وزارة الثقافة، للمؤلف والمخرج جواد الاسدي العائد الى بيته الاثير. اتحفنا بهذا العرض بمعية كوكبة من محترفي الابداع والابهار.
اختار الاسدي لرائعته مصحة عقلية نزلا، وحلبة صراع، ومرضى نفسيين، اختيار ذكي، كي تأخذ الشخصيات حريتها بالبوح من دون رقيب، واقع قاتم اسود، نفوس مضطربة قاحلة، صراع محتدم لا غالب فيه، الكل خاسر، محاط بجدران حديدية قاسية لا ضوء فيها سوى كوات صغيرة تبعث ضوء خافتا من داخل العنبر.
رسم الاسدي واقعا مأزوما تتحرك فيه نفوس محبطة، محطمة، لكنه لعب لعبته بذكاء أيضا، اذ فتح الابواب لإسقاط هذا الواقع في اي زمان ومكان، وهو يقول عن مسرحيته: “في اقبية الحياة ومنزلقاتها التحتانية، ثمة حشود من الناس المكسورين، المهمشين والجوعى، الذين ينطحون الذل والمهانة والعبودية بأجساد حارة ساخطة، هؤلاء ابطال المسرحية الذين ينشدون ويحلمون بأمل هنا وطمأنينة هناك “.
تبدأ الحكاية بعزف مكسور، حشرجة موسيقية، تنساب الالحان حزينة، ثقيلة على الاوتار، تعبيرا عن احتضار الارواح داخل المصحة. عذابات وخلجات تمور في ارواح مضطربة، جعلت المشاعر تتدفق حارة، تلسعك سياطها ان اغفلت عينك وشردت لحظة عن المتابعة.
دكتور نفساني، ومدير المصحة، مع بروفيسور، وجنرال، وممثل مشهور، وعازف مع وتر حزين، ورقيب، ومجموعة أخرى. كانت تتحرك كإطار وشاهد للحدث، حوله وداخله. لم تختلف المجموعة في هيأتها عن الشخصيات الرئيسة برغم انها حاولت مجبرة ان تغسل آلامها في مشهد جميل لكن الماء خذلها، كان متقطعا، جافا وقاتما ايضا.
العلاقة داخل المصحة بدأت رتيبة، تقليدية، لكنها احتدمت بمجرد ان تحركت النيران داخل الأرواح، وبدأ النزال بنفوس مشحونة، وحوار متدفق كنهر من كلمات عبرت عن مكنون الشخصيات لينتهي باحتجاجات، وتحولات، لعل اهمها التحول الذي ضرب المدير وثورته، بعد تأنيب الادارة بسبب تقربه من البروفيسور وعلاقته به .
جواد الاسدي ومنهجه كمخرج خبير، يراهن على عمله مع الممثل، وكيف يستفز مكنوناته ليخرج افضل ما لديه، وكانت الثمرة ناضجة، مبهرة. ساعة ونصف من الحوار المتصاعد الصعب، والحركة العنيفة بملابس شتوية ثقيلة، ولم ينتب العرض ولو هفوة صغيرة بالحركة، او الحوار، او التقنية.
واذا كان التألق في الاداء عناوين حرفية الكبيرين مناضل داود، واياد الطائي، اللذين أطرا العرض بفيض خبرتهما وتمرسهما، فإن الموهبتين الشابتين الواعدتين حيدر جمعة، وامير إسماعيل، اضاءتا طريق التفاؤل بغد مشرق للمسرح العراقي بهذا الاداء الراقي، وكذلك الحضور الملفت لأمين مقداد، وكمانه الحزين، وكذلك جاسم محمد.
وفي هكذا عروض رصينة لابد من توافر فريق متمرس يعمل خلف الكواليس، إضافة للسينوغرافيا التي رسمها المخرج، وتوهجت اضاءة الخبير علي السوداني ابداعا مضافا للعرض، والصوت لحيدر سعدون، اما مساعد المخرج فكان صميم حسب الله، والادارة المسرحية لبهاء خيون، وتصميم الجرافيك لكرار عبد الستار.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة