علوان السلمان
ـ (الانسانية لا تتحمل كثيرا من الواقع)…..توماس اليوت
…وما بين المتعة الجمالية والمنفعة الفكرية تكمن رغبة التعبير لتحريك الساكن من الاشياء في مجال التجريب الابداعي..
والقص القصير..اللحظة المستفزة لذاكرة منتج..واقع دينامي يمضي من المجرد الى العياني برؤية واضحة وبناء فني تتلخص تقنيته من حيث..البنية والشكل ومهارة الصياغية اللغوية واختزال الحدث وتكثيف الحكي ثم بلورة ذلك بصورة تستفز الذهن وتنبش الذاكرة..
وباستدعاء النص السردي(حديقة الارامل) الذي نسجت عوالمه التخييلية انامل القاص ضياء جبيلي ونشر ضمن مجموعته التي تصدر غلافها واعتلى نصوصها الموازية بفونيميه الجملة الاسمية المضافة كدلاله سيميائية ومفتاح تأويلي ودلالي لحكائية النص اذ كان اختزالا لمتنه..واسهمت دار سطور في نشرها وانتشارها/2017..كونها مغامرة تجريبية متجاوزة ببنائها السردي المشحون بالايحاءات الخالقة لمشاهدها التخييلية ومواقفها الانسانية..
( كان آدم ذو الاعوام الاربعة عشر وحيد امه الارملة..كان يحب القراءة..يدخر مصروفه واحيانا يسرق ليوفر ثمن الكتب التي تكرهها امه وتعتبرها مصدر المجون..ولا تفرق بينها وبين المجلات الخليعة تلك التي يتعاطاها الاولاد بعمره..وبالاضافة الى ذلك كانت تتمتع بحاسة شم كلبية طالما مكنتها من العثور على الكتب التي يخفيها ابنها فتسارع الى احراقها..
بدأ اهتمام آدم بالكتب منذ فترة مبكرة..عندما كان في الصف الخامس ابتدائي..فقد عثر في مكتبة المدرسة الصغيرة التي انشأها معلم اللغة العربية.. في وقت تكاد ان تنقرض ظاهرة المكتبات المدرسية في العراق..على كتاب صغير بغلاف رسم عليه صرصار عملاق يجلس على سرير وينظر الى ظله الآدمي بنظرة ذاهلة ومذعورة..وكان الكتاب عبارة عن رواية حملت عنوانا لافتا أثار فضول الفتى الصغير: المسخ) ص37..
فالنص يقدم تفسيرا فنيا للظواهر الانسانية والاجتماعية بتجاوزه حدود المكان والزمان مع اعتماد التخييل والصور المركبة في بنائها الفني القائم على لقطتين متضادتين:اولهما رغبة الكشف عن اسرار الكون والحياة(آدم والكتاب)..وثانيهما رغبة التسلط والمنع المجتمعي(الام والمشرف)..(عندما اراد آدم استعارة الرواية رفض المشرف على المكتبة متذرعا ان مثل هذه الكتب كالسموم..يجب ان تحفظ بعيدا عن تناول الاطفال..
(لكني لست طفلا) قال آدم بجسارة لم يعهدها المشرف من قبل..اعتبرها وقاحة منه..فدمغه على راسه هازئا: وماذا تحسب نفسك ياولد..ان بلوغك العاشرة من عمرك يجعلك مؤهلا لقراءة مثل هذه الاشياء المخيفة؟..كاد آدم ان يسأل المشرف عما يعنيه بـ (الاشياء المخيفة) لكنه فوجيء به وهو يخطف الكتاب من بين يديه وينصحه بقراءة الف ليلة وليلة ستجد فيها من الفساد ما يملأ مؤخرتك ايها الشيطان الصغير) ص38.. هذا يعني ان النص يقوم على تناظر المشاهد التي تتأرجح ما بين الواقع والخيال والغرائبي بكل انتقالاته اللحظوية من السكون الى الحركة.. اضافة الى استخدام القاص تقانات فنية كان في مقدمتها تقانتي الاستباق والاسترجاع فضلا عن تميزه بابعاد تجريدية ورمزية قائمة على الانزياح والطابع التركيبي المتداخل باحداثه الحركية التي تحيل على اضطراب نفسي مترسب لدى الشخصية التي تعاني الحرمان وتشعر بالنقص..لذا فالام والمرشد يكمل بعضهما الآخر دلاليا وسيميائيا عبر وحدة موضوعية وعضوية على المستوى الفكري والنفسي والبنيوي..فضلا عن تميزهما بكونهما كائنات بشرية مغيبة غير منسجمة مع ذاتها والواقع..لذا تعتمد الحلم والخيال للتعويض والتسامي لاثبات ذاتها واقعيا وموضوعيا..
(في احد الايام ابتاع آدم رواية واستطاع ان يدخلها الى البيت بعد ان استبدل غلافها بغلاف كتاب ديني..لهذا عندما راته الام لم تعترض..قالت له: هذا افضل من قراءة كتب المهرطقين).. وما ان بدأ بقراءتها ليلا حتى شعر بالخوف..لكنه هذه المرة لم يخف من نيران الام الكارهة للكتب بقدر ما خشي على امه نفسها من ذلك الكتاب..أحس بالذعر وهو يتخيلها في اوضاع شاذة بين ذراعي رجل غريب..أمّي لايعترف مثلها بالكتب ويسخر منها..لم يحتمل فكرة وجود مثل هذا الشخص في البيت نفسه..وقد اشعرته تلك التخيلات المعيبة والكئيبة بالغثيان..فقرر التخلص من الرواية..لكنه راى ان يخبئها اولا لكي لا تعثر امه عليها فتحدث الكارثة..والى ان يحين الصباح سيودعها في مكتبة عامة او ربما يعيرها الى صديق..فكر باكثر الاماكن التي لا تثير ريبة المرأة الارملة فلم يجد سوى طريقة واحدة هي الدفن..)ص39 ـ ص 40..
فالنص يمتاز بتنوع تقنياته الفنية مع حس انساني بلغة قادرة على التعبير عما يختمر في ذهن المنتج والشخصية..ابتداء من الاستهلال الذي يستند على مجموعة من الافعال المتعاقبة( يحب/يدخر/يسرق/يوفر/تكره/تفرق/تتمتع/…) التي تدل على زمن الحاضر الذي هو زمن الفعل والتحرك الدرامي..فضلا عن انها تشكل جملا ذات محمول فعلي الغرض منه الاختصار والتكثيف والاختزال للاسهام في تسريع السرد الذي يسير شخوصه السارد والتي تكشف عن رؤيته من خلال تنوعها واختلاف رؤاها الفكرية التي تعبر عن وعي جمعي.. على خارطة طريقها وكيفية تعاملها مع الاحداث من خلال توظيف آليات التكنيك السردي التي يعتمدها السارد(الاحداث/الحوار/المكان/الزمان/الترميز..)..مع تركيز على الانزياح اللغوي من النثرية السردية الى الشعرية السردية المحافظة على موسقة اللفظ والصور الجمالية المحققة للمفارقة الادهاشية المتمثلة بالشخصية الحالمة على مستوى اللاشعور باحداث متداخلة ومتشابكة يتداخل فيها الواقع والخيال..الوعي واللاوعي..الذاتي والموضوعي.. كاسترجاعها الاحداث الايروسية غير المشروعة من خلال الفعل الحلمي الذي ارتسم في ذهن آدم عبر الرواية..وهذا ان دل على شيء فانما يدل على الحرمان من تحقيق الرغبة والكبت الاجتماعي والفكري بسبب هيمنة سلطة المجتمع التي شكلت الام والمشرف رموزها كمدلول فني لتصعيد التكنيك السردي..
(خاف آدم من الفضيحة..اذ سرعان ما سينتشر الخبر ويصبح اسم امه علكة تلوك بها الاسنان في كل مكان..فكبح غيضه..ولعق جرحه وكتم السر.. السر الذي لم تحافظ عليه الام الارملة..فالنساء الثرثارات مثلها كالطيور عندما تزن على خراب اعشاشها..فقد وشوشت به لاحدى صديقاتها وكانت ارملة ايضا..فوشت هذه السر لباقي النساء الارامل في الحي وما اكثرهن في ظل الحروب المتعاقبة.. وفي غضون ايام تحولت حديقة البيت الى مساحة تغص بالنساء الارامل المتجلببات بالسواد..حين رأى آدم هذا المشهد تأفف متذمرا:ياالهي.. كم زوربا نحتاج لحديقة سوداء من الارامل؟) ص42 ـ ص43..
فالقاص يوظف المكون الغرائبي كي يجر متلقيه لربط النص بالسياق الزمني والظرف الاجتماعي والسياسي والنفسي..فضلا عن انه يوظف فكرة المسخ او تحويل هوية الكائن الانساني الى طبيعة منفردة..(تذكر آدم تلك الرواية..كان على وشك الخروج من البيت عندما خطر له القاء نظرة على الحديقة..عندئذ لاحظ ان ثمة فطر غريب اشبه بابهام مقطوع قد نما في المكان الذي دفنها فيه) ص40.. فالنص يدين الحرب ويكشف عن نوع من التمرد على احداث الواقع التي عرفت تحولات لا تبعث الطمئنينة في ذات الانسان المعاصر..
وبذلك قدم القاص نصا تجريبيا متسلقا ابراج الخيال ومتفردا بلغته الدينامية المكتظة بالثنائيات الضدية.. التي تكشف عن عمق التجربة وبراعة التصوير وسعة الخيال بلغة انتشلت جانبا حياتيا في تتابع منطقي مستفز للذاكرة..اضافة الى انه يركز على الوعي وقوة العاطفة المكتنزة التي تستفز المستهلك (المتلقي) وتستدعيه للمشاركة في تحقيق الكشف باستنطاق المشاهد المتراكبة التي يرتبط بعضها بالذات الانسانية في اطار القلق وفيها ما يرتبط بالموضوع في اطار محنة التهميش والاقصاء..فضلا عن تفرده بتعدد الافكار والمواقف وقد استطاع المنتج(القاص) من احتوائها بنمذجتها المتعددة واصواتها الاجتماعية وخطاباتها وموجوداتها..هذا يعني ان عنصر الحركة شكل احد معطيات المستوى الحسي للغة النص..اضافة الى توظيف الجزئيات للكشف عن دخيلة الشخصية وتطوير الحدث مع تركيز على الجوانب المعتمة في الانسان..