الإنتاج العقلي

نحن جميعاً نتحسر على ماض بعيد كنا فيه سادة العالم، ونشعر بالرضا على ما قدمناه له فيه من إنجازات. وإن كنا نكاد لا نجد لنا مآثر إلا في تلك الحقبة، وقد مضى عليها الآن قرابة ألف عام. لم نلبث بعدها أن غرقنا في الفاقة، وأمعنا في الضعف، حتى بتنا على هامش التاريخ، وألفينا أنفسنا خارج نطاق العصر.
في تلك الأيام كانت طبقة العلماء والمفكرين، والصناع والزراع، والتجار والحرفيين، تعمل بلا كلل، وتكدح دونما هوادة. فمن طبيعة المجتمع الحي أنه لا يعرف الخمول ولا يستسيغ البلادة ولا يؤثر التواكل. ويؤدي كل فرد فيه واجباته على الوجه الأكمل، دون أي تردد أو توان.
ولكن من الخطأ الظن أن الأمور كانت جميعهاً تسير بانتظام. فقد كان هناك الكثير من المشاكل والمنازعات. وكان المجتمع منقسماً على نفسه إلى طبقات، أدناها على الإطلاق طبقة العبيد. وكان جل السلاطين مشهوراً بالجور والفظاظة والشدة.
بل إن أزهى العصور على الإطلاق تلك التي حكم فيها خلفاء أقوياء ذوو حول وطول وجيوش جرارة وعيون. وقد فتك هؤلاء بوجوه المجتمع من علماء ومفكرين، وزجوا بالكثير منهم في السجون، حتى تدجنوا، وتحولوا إلى تابعين. وفي العصرين العباسيين الأول والثاني شواهد لا يجهلها قارئ، ولا ينكرها ذو بصيرة.
وفي القرنين الرابع والخامس اللذين شهدا ذروة الحضارة الإسلامية كان معظم النخبويين الكبار يعيش في كنف حكام جائرين. بل إن الدولة الغزنوية التي قامت بفتوحات عظيمة في شرق آسيا والهند واشتهرت باستخدام القسوة والعسف هناك، رعت مفكرين كباراً من وزن البيروني. كما تبنت دولة بني سلجوق علماء معروفين من وزن عمر الخيام وأبي حامد الغزالي. وعاش ابن الهيثم في بلاط خليفة جبار هو الحاكم بأمر الله الفاطمي. كما كان ابن رشد قاضياً للخليفة الموحدي أبي يعقوب يوسف المشهور بحزمه، وكذلك كان ابن طفيل أيضاً.
ولكن هؤلاء الرجال وسواهم من المشاهير لم يتوقفوا عند شكل النظام السياسي، كما توقفنا نحن، ولم يستنفدوا طاقاتهم في الأخذ والرد، والسب والشتم، كما فعلنا نحن. بل انكبوا على الدرس وطلب العلم، وشرعوا بالبحث والعمل والتفكير. فاستجاب المجتمع لهذه الوجهة، وأدار عجلة الإنتاج بكل حماس. وكانت الحركة الدائبة سمة مميزة لتلك المرحلة التي مازلنا نحصد ثمارها حتى الآن.
إذا كنا نعتقد أن نظرتنا المغرقة في السوداوية ستقلب الأحوال وتغير الموازين فنحن واهمون دون شك. ذلك أن تبديد الوقت في ما لا طائل وراءه سيكون أكبر خسارة نتكبدها على الإطلاق. وعلينا أن ندرك أن التفكير السليم، والعمل الخلاق، والإنتاج المتواصل هي السبل الكفيلة بدخولنا عتبة التاريخ، وإمساكنا بناصية العصر. وإذا ما أغفلنا ذلك فإن ما نقبل عليه هو ضياع للفرص، وفناء للأعمار، وهدر للطاقات، ونكوص للخلف. وليس ذلك ما نطمح إليه في أي حال من الأحوال.
محمد زكي إبراهيم

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة