يرسم الراحل جرجيس فتح الله أفقاً فكرياً وسياسياً نادر المثال فهو بهذا العمل يتطرق إلى زوايا وأحداث وشخصيات كان لها أدوارها المميزة سلباً وإيجاباً في التاريخ العراقي. ومما يلفت النظر في هذه النصوص التي وردت في كتاب رجال ووقائع في الميزان أنها أضاءت بنحو دقيق لحظات وأحداثاً ومسالك فكرية وشخصية وثقافية وتاريخية لم يتطرق إليها احد قط.
“الصباح الجديد” تقدم قسطاً وافراً من هذه الإضاءات كما وردت على لسانه لجمهور لم يطلع عليها في السابق بمعزل عن عمق ثقافة هذا الجمهور او صلته بالسياسة العامة. إنها ليست أفكاراً فحسب وإنما هي شهادات تنطوي على نبوءات مثيرة للدهشة عن اثر المناهج والأيديولوجيات والشهادات التاريخية السابقة للأشخاص الذي يجري الحديث عنهم ويسهم الراحل جرجيس فتح الله في تصحيح الكثير من المواقف والتصورات والوثائق السياسية المرافقة لمواضيع الحديث. كما ان أفكار السيد فتح الله تستكمل في أحيان كثيرة ما كان نصاً لم يكتمل في الماضي. إننا من دواعي الاحترام والتبجيل لهذه الشخصية النادرة نسطر عدداً من هذه الأفكار في الكتاب المذكور” رجال ووقائع في الميزان”.
الحلقة 15
حوارات مع جرجيس فتح الله*
بعد مرور اسابيع قلائل وانا اتهيأ للسفر الى اوروبا . حمل الي البريد رسالة رسمية مذيلة بتوقيع (غربي الحاج احمد) بوصفه مديرا عاما للدعاية والتوجيه تتضمن انذارا غير مشروط –بوصفي صاحب امتياز الرائد- ووفق قانون المطبوعات السيء الصيت الذي كان هدفا لواحد من مقالاته في الجريدة . مؤداه ان الجريدة وهي ادبية بالاصل قد تجاوزت الغرض الذي وجدت له . وطلب الانذار ارسال نسختين من اخر عددين للجريدة .
ادركت فورا ان عمر “الرائد” اشرف على الختام وايامها معدودة والقرار بألغاء الامتياز سيصدر بعد ارسال النسخ المطلوبة , ولم يكن السبب بخاف , فالصراخ والزعيق بوجوب انجاز الوحدةو الفورية الذي رددته الحناجر في بغداد لم يكن يعني ” الرائد” في شيء . وان المعسكر الذي خندقت فيه ليس وحدويا ولا عروبيا . وقد ال شمس الجبهة الى الغروب ان لم تكن قد افلت فعلا .
وحزمت امري على ابقاء المديرية بأنتظار اعداد الجريدة , كسبا للوقت , وتأخيرا لساعة الاحتضار ثم رحلت الى بغداد قبل موعد اقلاع الطائرة بأسبوع . وفي بغداد كان بأنتظاري مفاجأة غير متوقعة قط. كنت اعتقد ان (عبد السلام عارف) وهو الذي اوعز بأتخاذ الاجراءات ضد الجريدة . لكني علمت انه بعيد على الاقل عند توجيه الانذار وان “غربي ” الان من المغضوب عليهم. فقد اخذ عليه (عبد السلام ) تصرفا معينا في مديرية الاذاعة والتلفزيون بناء على اخبار او وشاية , فثارت ثائرته بل غيرته على الدين الحنيف واقدم في ثورة غضب على واحد من تصرفاته الشاذة التلقائية التي لا تجد لها تفسيرا : اقصى “غربي” عن الاذاعة والتلفزيون واستدعى المقدم الركن (سليم الفخري) الذي كان قد اعيد الى الجيش ليخلفه فيها وكانت الاشاعة ان (قاسما ) وهو الذي انتدب (سليما) للاذاعة . فقصدته اولا فيها ووجدته بثياب مدنية , مؤكدا تعيينه . ثم عرجت على (غربي الحاج احمد) وكانت دائرته في (السراي) تبدوا عليها الوحشة فلا زحام ولا زوار .
سألته رأسا وبدون مقدمات كيف طاوعته يده على وضع توقيعه بالقضاء على صحيفة كانت له فيها حصة ؟ واردت انقاذ الموقف فأردفت :” اهو عبد السلام الذي امر بذلك “؟ اجاب :”كلا “. وقب قائلا بلهجة رسمية : انه اجراء اصولي . الجريدة خرجت عن الغرض الذي وجدت له .
واشفقت عليه من الموقف وختمت الزيارة . ثم اسرعت رأسا الى الفندق واتصلت بعبد الغني الملاح لانبهه بنهاية “الرائد” الوشيكة وسألته عن مواد العدد الاخير فقال :” ربما وافقت على انزال فقرات من تصريحات (الجادرجي ).
فقلت لا بل كلها نصا وحرفا ولو استغرقت الجريدة بكاملها , فستكون مسك الختام “.
وكان الجادرجي قد ادلى بحديث جريء صريح تعرض فيه الى الحكم العسكري وابدى المحاذير من انحدار الثورة الى برزخ تفتقد في الديمقراطية والحياة البرلمانية . وامور اخرى لا اذكرها بالضبط. وهكذا كان . وخرج اخر عدد منها بتصريحات الجادرجي الكاملة وانا في الخارج .
كانت الرائد اول جريدة ترحب بالرابع عشر من تموز . واول جريدة يغتالها حكم الرابع عشر من تموز .
جريدة الحقيقة= راستي (في اعقاب حركة الشواف)
س:متى اصدرتم صحيفة (الحقيقة-راستي)؟ ابعدها مباشرة ؟ وكيف كان ذلك؟
كان ذلك بعد القضاء على محاولة العقيد الشواف الانقلابية مباشرة. لا اريد الدخول في تفاصيل تلك المحاولة البائسة التي كلفت الشعب العراقي الغالي من الدموع والدماء . وخلفت ندوبا غائرة بلا جراحا ناغرة ما زالت تنزف دما وقيحا بفضل جمال عبد الناصر وببركاته .
راودتني فكرة استحصال الاذن الرسمي بمعاودة اصدار” الرائد ” وكان (غربي الحاج احمد9 قد اخرج او اقيل بخروج محمد صديق شنشل من الوزارة . وعين في محله (ذو النون ايوب) وهو الذي جاء ذكره في الحلقات الاولى.
حاولت الاتصال به من ممنزلي وكان ذلك متعذرا وفشلت عدة محاولات ثم اقتضى امر لا يمكن دفعه الذهاب الى مقر اللواء في الغزلاني وبصحبتي الصديق الشهيد ملا انور المائي الذي كان قد انحدر من العمادية في وقت سابق على المحاولة الانقلابية وحل ضيفا علي . في العقيد الجديد الذي ارسله( قاسم ) امر للواء الخامس بديلا للشواف تبينت ذلك الطالب الكبير السن الذي درس فترة في متوسطة الناصرية في الصف المنتهي منها مع (ناتجي طالب) وذكره بي اخوه الذي كان معه انذاك وهو زميل وصديق وكنا معا في الصف الاول . التفت بعد الترحيب الى (ملا انور ) وكان بلباسه الكوردي فقدمته له . فقال له اانت الذي قدت المظاهرة بمحاولة اقتحام الثكنه الحجرية لانقاذ المعتقلين؟
وكان كما بدا على علم بالمحاولة . فأوما (انور ) بالايجاب فأسرع العقيد حسن عبود الى درج في مكتبه واخرج مسدسا اوتوماتيا من نوع براوننغ وقدمه لصاحبي قائلا هذه هدية الزعيم (يقصد قاسما) . بعدها بسطت له ما جئت لاجله وفيما نحن في الحديث رن جرس الهاتف وكان المتكلم قائمقام 0زاخو)يستجير ويستنجد قائلا ان مظاهرة مسلحة تحدق بدار الحكومة وهي تنادي بسقوط الخونة” .
كنت اعلم ان (صالح اليوسفي) هو مسؤول الحزب في المدينة والمنطقة وان مكاتب المحكمة في عين البناية . فخطرت لي خاطرة وقلت للعقيد حسن وهو يفكر فيما يتخذ “سل القائمقام هناك عن موظف في المحكمة اسمه صالح اليوسفي ) وليدعه يخرج على المتضاهرين ويحدثهم بأسمك وانا اضمن النتيجة .
بدا العقيد برهة كالمتشكك الا انه نقل الاقتراح . وبقينا ننتظر النتيجة زهاء نصف ساعة . ثم جاء صوت القائمقام واليوسفي يعلنان بعودة الهدوء الى المدينة وتفرق المتضاهرين . ويظهر ان القائمقام كان قد سبق فأتص بوزارة الدفاع . اذ ما ان استقرت اله التلفون في محلها حتى رن الجرس ثانية . وكان المتكلم (طه الشيخ احمد) بعينه يسأل عما اتخذ من تدابير لزاخو . قلت للعقيد دعني اكلم(طه) بعد فراغك وانبئه بوجودي فنحن معارف . وفعل رحمه الله . وكانت دهشة العقيد طه واضحة بوجودي في تلك اللحظة . قلت له اريد امتياز جريدة . قال ما الاسم الذي اخترت لها قلت (الحقيقة) قال سيأتيك الامتياز بالبريد وابعث بالطلب الرسمي فيما بعد ان شئت فباشر بأصدارها اليوم على بركة الله”.
وبهت العقيد حسن . لكنه استبشر اذ ان لموصل بقيت دون صحيفة طوال اسبوع.
وقد اختفت الصحيفتان المحليتان المتعاطفتان مع حركة الشواف .
هكذا ولدت جريدة “الحقيقة” من دون تقديم طلب كتابي زدون حاجة الى وثائق . ولدت بدون اشهر حمل ولا مخاض وربما تفردت بهذا في تاريخ الصحافة والصحف العراقية . وفي هذه المرة كانت واحدة من جرائد الحزب الديمقراطي الكوردستاني في كل شئ خلا الاشارة الصريحة .
في حينه لم اكن مدركا ما سيعترضنا من صعوبات في تنضيد القسم الكوردي . لا ادري كي تغلبنا على هذا . فجميع مطابع الموصل كانت عربية الاحرف, ولا استطيع ان اتذكر تفاصيل ذلك . كان يشرف على القسم الكوردي كل من السيدين انور المائي وملا حمدي, ولم تقطع الجريدة شوطا الا وكان عدد المساهمين في تحريرها قد تضاعف عشر مرات . ومن ناحية التوزيع بدت ” الحقيقة” خلفا للثلاث السابقات , رحنا نرسلها بديلا لجريدة الرائد , فلا ترفض وكانت هناك قائمة طويلة بأسماء اصدقاء الحزب واصدقائي ترسل لهم على سبل الهدية . وكان بعض المشاركين الاغنياء المتحمسين وهو يدرك مصاعب الصحف المالية يأبى الا ان يرسل بدل المشاركة مضاعفا وهو امر لا دخل لي به فقد اودعته جماعة المطبعة كما فعلت في مناسبة “الرائد”.
س: كيف كان رواج “الحقيقة” بهذا الشكل الجديد؟
تقصد بصدورها بلغتين ؟ بقدر ما تسعفني الذاكرة بلغنا حدود السبعمائة والخمسين وربما نطحنا الالف , وربما بأدنا بالخمسمائة وهو عدد كبير نسبة الى جردة محلية لا تصدر في العاصمة .
الامر الملفت للنظر – وربما كان ذلك لاول مرة في تاريخ الصحف الموصلية – ان اخذ اصحاب المكتبات والوراقون في الاقضية الكوردية يطلبون نسخا يعرضونها في دكاكينهم للبيع وهو ما لم يتح لاي صحيفة موصلية.
ليس من حقي ان اضيف شيئا اخر الى ما قلته عن “الحقيقة” وقد كفاني الامور الدكتور (عبد الفتاح علي بوتاني) من جامعة دهوك , بكتابة تأليف كامل عنها وهو بعنوان “الحقيقة: اول جريدة كوردية تصدر في الموصل”. وطبعه في دهوك قبل اكثر من سنتين . اقول وكلي امتنان للمؤلف واعتراف بالمجهود الذي بذله لاستلال الاعداد الثلاثة والعشرين من مجاهل النسيان واعادة الحياة اليها,
مجهود لم تحظ به اي جريدة من قبل في مدى علمي.
*اجرى الحوارات السيدان مؤيد طيب وسعيد يحيى والكتاب من منشورات دار أراس للطباعة والنشر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2012