علي حسن الفواز
العرب يقرأون ميشيل فوكو بهوس، حدّ أن هذه القراءة تتحول الى(لعنة) تفرض سحرها على كتّاب يحاولون تلفيق أفكار تخصّ الجنس واللذة والرقابة والقمع من خلال افتراض تعالقٍ يجعل من الجسد رابطا، أو مجالا لاصطناع تمثلات تُعبّر عن ممارساته في الخطاب، وفي السياسة، وفي كلّ ما يتعلق بانتهاك الجسد، من قبل السلطة، أو القبيلة، أو الجماعة، أو حتى من قبل القوى الكبرى التي فرضت قوتها عبر سياسات الاخضاع، أو عبر سرديات الاستشراق والهيمنة كما يرى ادوارد سعيد..
تخيلات القمع هي مايفترض هذه المواجهة، وهشاشة الجسد أمام السلطة هي ما يستدعي وعيا بهوية تلك السلطة، وبطبيعة أنظمتها القامعة، وبقطع النظر عن علاقة هذا التخيل بظاهرة(الاستبداد الشرقي) الذي تمثّله السلطة الأتوتوقراطية، أو التوتاليتارية، فإنّ بعض الباحثين يسبغون على الرقابة والقمع وحتى(الجنسانية) بوصفها الفوكوي طابعا اشكاليا، ينطلق من تصوّر مفهومي عائم، ومن (سلسلة من علاقات القوة وخطابات الهيمنة التي تكوّن وعينا بذواتنا) وكذلك عبر نظرتنا للآخر، الأخر بقاموسه، ورهابه واسواقه وسلطته المُحرّضة على الاستهلاك..
التجريد المفاهيمي هو يفرض منهجية فوكو في سياق معالجة الخطاب، وفي سياق التعاطي مع الأسئلة التي يُثيرها، فلاشك أنّ ل(فوكو) مرجعياته الفلسفية والثقافية والتاريخية، وأنّ أطروحاته حول موضوعات الرقابة والسلطة، ظلت ترتبط بستراتيجيات لها علاقة بمنظومة القيك الذي يُنتجها النظام(الرأسمالي) المهيمن، وبطبيعة تلقّي المجتمع المتنوع لشفرات الخطاب ولما يحمله من توصيفات للسلطة، ولقيم الحرية والحق، والتي ترتبط- رغم نمط الحياة الليبرالي- بصيانات تحكمها السلطة/ النظام، لاسيما تلك الجهات ذات التوصيفات المدنية والحقوقية، وهذا مايجعلها أكثر تعبيرا عن فكرة المركزية الحاكمة، تلك المسؤولة والمُنتجة لسلسلة من الاغترابات العميقة، أو لبعض التمثلات الاضطهادية أو العصابية التي يعشيها بعض أفراده، إذ تجعل من الموضوعات التي عالجها فوكو- في حفرياته- أكثر ارتباطا بتاريخ العنف والسجن والقمع والمراقبة في العقل الغربي، وفي نمط سلطاته.
السلطة عند فوكو هي المؤسسة أيضا، حيث(اهتم بدرس المؤسسات التي تشكل قاع السلطة وارضها، كالمدرسة، والثكنة، والسجن، والملجأ، والمستشفى) فضلا عن أنّ نظرته للقوانين الحاكمة لاتنفصل عن نظرته لتلك السلطة التي تفرضها، وعبر مسؤوليتها عن أنظمة العقاب، والرقابة، والتي لها علاقة بتأثير أطروحاته حول مجالات مفهومية معقدة تدخل في اططار النظر الى علاقة تلك السلطة ب(تاريخ الجنون) ومولد العيادة الرقابة والقمع وعالم السجون، وكُلها أمور اشكالية، تتمثل رجعيات القوة، والنظام الرأسمالي، والنظام السلعي، والعلاقة الاغترابية التي يعيش بعض مظاهرها الإنسان..
الباحثون العرب واسئلة فوكو
السؤال الأكثر إثارة في هذا الجانب يتعلّق بالكيفية التي يقرأ بها الباحثون العرب ميشيل فوكو، وهل هناك توظيف منهجي أو اجرائي لأطروحاته وحفرياته؟ وماهي هوية هذا التوظيف في سياق التفكير النقدي؟
هذه الأسئلة تقود الى غيرها حتما، لكنها تنطوي- أيضا- على أهمية خاصة من خلال طبيعة جهاز المفاهيم الذي استخدمه، والتفكير النقدي الذي أدرك أسئلته فوكو، لاسيما نقد السلطة والهيمنة والقمع والرقابة، والتي تتمثل في جوهرها الى كليانية السلطة التي تمثلها القوى الحاكمة، وهو ما اعطى لأدورد سعيد- الذي وظّف اركيولوجيا فوكو كثيرا من محفزات أطروحاته التي تتعلق بنقد الاستشراق، ونقد الهيمنة الكولنيالية، ونقد فكرة التابع، وحتى نقد لصورة المثقف النمطية العاطلة وسط(ثقافات) تصنعها السلطة وقوى الهيمنة عبر تميلاتها المتعددة..
الأسئلة التي أراد أنْ يُثيرها فوكو ظلت بعيدة عن مجالات النقد العربي وطرائقيته، فنقد السلطة ظل نقد فوقيا حذِرا، في الوقت الذي كان المشروع النقدي لفوكو يقوم على نقد ما تنتجه السلطة، أو ماتطرحه، أو ما تمؤسسه، أي أنه نقدٌ يُعنى بالتفاصيل، تلك التي تمسّ موضوعات معقدة وغائرة مثل القانون، والسجن والجنس ورثاثة الحقوق المدنية، وفكرة الإخضاع التي حاولت السلطة أنْ تفرضها..
مستوى النظر الى السلطة هو مجال خلافي، بوصف أنّ السلطة التوتاليتارية والأوتوقراطية في الشرق ليست هي السلطة ذاتها في الغرب، إذ هي بلا مؤسسات، فضلا عن كونها تقوم على ممارسة النقد إزاء الطبيعة المركزية للقوة والثروة واحتكار العنف، في الوقت الذي تتبدى فيه السلطة العربية بوصفها نوعا من المُقدّس، إذ تُضاف الى حاكميتها رمزية الالهة، وقدسية رجل الدولة الحاكم حسب(التكليف الشرعي) وهو مايعني تكفير المعارضة، واتهامها بالمروق والزندقة والخروج عن( الأمة والقياس والجماعة)
الخطاب النقدي الثقافي للسلطة وحسب الأطروحة المفاهيمية لفوكو ظلَّ بعيدا عن نسقية ماهو تداولي في مجال النقد العربي، حيث ظلّ نقدا بلاغيا، ونصوصيا، وحتى فقهيا في سياقات معينة، ورغم توظيف البعض لمنهجية فوكو في النقد الاركيولوجي، إلّا أنّ مسار هذا النقد ذهب بإتجاه آخر، وعلى وفق تخيلات نقدية كالتي اقترح بعضها الراحل محمد عابد الجابري، إذ حصرها بين ماهو بياني وعرفاني وبرهاني، أو بين نقود اقترح لها تسميات مجاورة لمشروعه في نقد العقل العربي مثل( العقل السياسي والعقل الاخلاقي) والتي تحولت الى نسقيات تلامس اشكالات صراعية في تفكيرنا بين السلطة ومعارضيها المتواريين خلف ماهو مُضمر في خطابات(العرفان والبيان) حيث اتهمهم الجابري بالغنوصية، وبأنهم من جماعة أصحاب(العقل المستقيل) وهي توصيفات اشكالية لا تعالج طبيعة الحاكمية القائمة على اساس الرقابة والقمع والسجن والتكفير..
الجنون والمعارضة..
إذ كان فوكو يُبيّن( أنّ المجنون هو بالتحديد الشخص الذي لا جدوى منه في الإنتاج الصناعي، ولذا نحن مجبرون على التخلص منه) فإنّ تسمية هذا المجنون قد تكون غير بريئة، لأنها خاضعة لتفسير السلطة، وليس للطب، وحتى الطب بوصفه المؤسسي سيكون خاضعا للسلطة ولهيمنة خطابها، وهذا مايعني لنا امكانية توظيف صفة(الجنون) بما نظير ل(التكفير) حيث يكون يوسم المعارضون، والمتمردون على السلطة، ويتم طردهم بوصفهم مجانين، وأنّ جنونهم ضار ب( الأمّة والجماعة) لذا يجوز قتلهم أو حبسهم او اخضاعهم لسلطة العيادة والسجن، كنظير لتوصيف المُكفَّر الذي يمكن لذات السلطة أنْ تقتله أو تحبسه أو تُهمّشه وتحت توصيف هو أقرب الى سمة (التكفير الجنوني)
منهجية النقد الفوكوي تقوم على معرفة المشكلة، وعلى تحليل هذه المشكلة، وعلى وفق مُعطيات وتراكمات عمقت قوة السلطة، وهو ما أخضع المشكلة الى توصيفات قابلة للتحوّل، فسلطة الرأسمال كانت تؤمن بسلطة السوق وحركة الرساميل، وأنّ الطبقة البرجوازية نشأت في ظل هذه السلطة، بوصفها سلطة منفعة ومصلحة، وأنّ أية قوة تحدّ من هذه السلطة ستجد من يواجهها بالعنف، والطرد، إذ بدا التقسيم الطبقي تقسيما مُقدّسا، وأنّ علاقات الانتاج وقوى الانتاج ليست بعيدة عن هذا التقسيم، ولاتصطنع لها سلطة مجاورة أو مُهددة، بما فيها الأطروحات الماركسية التي تجوهرت حول(ديكتاتورية البروليتاريا) والتي تعني تهديدا لسلطة البراجوازية ولتقسيم العمل، ولاحتكار الثروة والقوة، وأحسب أنّ هوية الحرب الباردة هي حرب( أفكار ومفاهيم وأسواق) فضلا عن كونها تعبيرا عن هذا الصراع الذي يخصّ مفهوم السلطة، واحتكار الثروة والقوة العالميتين، والذي يخصّ الفهم الطبقي للصراع، والذي وجد في عديد من البلدان التي عانت من الاستعمارات نوعا من التماهي المتعالي المسكون بالرومانسية والثورية..
هذا التماهي لم يتحول الى قوة بديلة، والى سلطة نظيرة، ولعل مراجعاتنا لأغلب الأطروحات الثقافية لسرديات(مابعد الكولينالية) كما عند فانون وغاياتري سبيفاك وهومي بابا وادورد سعيد وإيميه سيزار سنجد هذا الأضطراب الذي تعيشه ثقافات المُستعمّر والتابع..
كما أنّ طبيعة التحولات السياسية، التي سميّت ب(حركات التحرير) انتجت لنا جملة من الأنظمة الاستبدادية التي تُعيد انتاج المُقدَّس السلطوي، من خلال سلطة المعسكر، وسلطة القائد الزعيم والفقيه، وسلطة الأيديولوجيا والأحزاب، والتي تحولت في مرحلة لاحقة الى سلطة التاريخ والجماعة والأمة والفرقة الناجية..
هذه التوصيفات تكشف عن ضعف ورثاثة فاعلية النقد من جانب، وأنّ النقد لم يتحول الى مشروع، ولم تتعزز قوته في المؤسسة والجامعة، وأنّ ماعمد اليه البعض من اعتماد حفريات نقدية استلهاما من المشروع الفوكوي ظل نقدا فوقيا، وغامضا ولا يمسّ جوهر السلطة وتمثلاتها، وهويتها الطائفية والمركزية، إذ ظل للسلطة الجديدة كفّارها ومجانيها وصعاليكها ومتمردوها، وهم طبعا متهمون بالكفر نظير الجنون، والمروق نظير الخروج عن الجماعة والأمة..
المعرفة والسلطة والنقد
لايمكن للسلطة أنْ تستمر وتتكرّس دونما معرفة، أو جهاز من القيم يفرض ويؤنسن قوتها، والمعرفة هنا ذات تمظهرات تدخل في مجال التربية والتعليم والاعلام والاعلان، والدبلوماسية والادارة والسياسة والاقتصادن وهي مؤسسات قابلة للأدلجة، والاخضاع، وإذ كان للغرب سلطته ذات التوصيف الليبرالي والديمقراطي والمدني، فإنها- رغم هذه المظاهر- تظل محكومة بمركز عميق، له مرجعياته ومصالحه، وأنماط اسواقه وثقافاته، والتي تدخل في السياق الشبكي للسلطة، والتي تجد تداوليتها من خلال فرضية الهيمنة، بكلِّ ما فيها من أدوات للقمع ومؤسسات للأمن، والقوة العسكرية الرادعة، والتي بدت كشفت عن روح(اللوثيتان) فيها من خلال مواجهة العنف في بعض المدن الأوربية والأمريكية، وفي مواجهة بعض التظاهرات والاحتجاجات، بما فيها الاحتجاجات ذات الطابع العنصري، فضلا عن تعاطيها العنفي مع احداث عالمية مثل احتلال افغانستان والعراق، وعبر الضربات العسكرية في ليبيا وفي يوغسلافيا السابقة، وعبر الحرب على الجماعات الارهابية..