رجال ووقائع في الميزان

يرسم الراحل جرجيس فتح الله أفقاً فكرياً وسياسياً نادر المثال فهو بهذا العمل يتطرق إلى زوايا وأحداث وشخصيات كان لها أدوارها المميزة سلباً وإيجاباً في التاريخ العراقي. ومما يلفت النظر في هذه النصوص التي وردت في كتاب رجال ووقائع في الميزان أنها أضاءت بنحو دقيق لحظات وأحداثاً ومسالك فكرية وشخصية وثقافية وتاريخية لم يتطرق إليها احد قط.
“الصباح الجديد” تقدم قسطاً وافراً من هذه الإضاءات كما وردت على لسانه لجمهور لم يطلع عليها في السابق بمعزل عن عمق ثقافة هذا الجمهور او صلته بالسياسة العامة. إنها ليست أفكاراً فحسب وإنما هي شهادات تنطوي على نبوءات مثيرة للدهشة عن اثر المناهج والأيديولوجيات والشهادات التاريخية السابقة للأشخاص الذي يجري الحديث عنهم ويسهم الراحل جرجيس فتح الله في تصحيح الكثير من المواقف والتصورات والوثائق السياسية المرافقة لمواضيع الحديث. كما ان أفكار السيد فتح الله تستكمل في أحيان كثيرة ما كان نصاً لم يكتمل في الماضي. إننا من دواعي الاحترام والتبجيل لهذه الشخصية النادرة نسطر عدداً من هذه الأفكار في الكتاب المذكور” رجال ووقائع في الميزان”.
الحلقة 11
حوارات مع جرجيس فتح الله*

بدا التكتل القومي واضحا في شخصيات مؤسسيه وبالاسم الذي اختير له “الاستقلال” وهو اسم اثري في الواقع قبل ان يكون عمليا مطابقا . فالبلاد مستقلة واية استقلالها عضويتها في الامم المتحدة وسائر الهيئات المنبثقة عنها . اما اذا كان مؤسسوه يريدون التذكير بأن الاستقلال غير كامل وان النفوذ البريطاني باق . فهذا شيء اخر . وقد احسنوا صنعا باختيارهم محمد مهدي كبه رئيسا له . فهو انساني قومي نظيف ذو ماض وطني لا تشوبه وصمة , وهو الذي اختير بعد الرابع عشر من تموز عضوا في مجلس السيادة الثلاثي .
وحزب الاحرار الحزب الخامس وهو من الاحزاب التقليدية التي شكلت في اوائل الثلاثينيات والعشرينات , كان رئيسه المرتقب توفيق السويدي بعينه رئيس الحكومة وقتذاك.
وقدم لفيف من الماركسيين والشيوعيين طلبا لتأسيس حزب بأسم حزب التحرر الوطني ليكون واجهة , فرفض الطلب .
كادت الشخصيات –التي استقطبت حولها كيانات الاحزاب – تكون معروفة وشرعت الاحزاب تعمل وكأنها اجيزت قبل صدور الترخيص الرسمي وبعد قيام الحكومة يمنح امتيازات لمن لا يملك من تلك الكتل .
ومما اذكر بهذا الصدد , اننا طلبنا امتيازا لجريدة الحزب بأسم “الشعب” وارتؤا ان يكون الامتياز بأسم الشخص الثاني الذذي يلي (عزيز) مقاما في الحزب وهو السيد “يحيى قاسم” وكنت قد نوهت في الحلقة الاولى من هذه المقابلة بأسمه , كان موظفا كبيرا في مديرية السكك الحديد فأستقال وبدأ يزاول المحاماة انتظارا لاجازة الحزب , مثلما فعل (عزيز) بتركه القضاء . لا ادري ما حدث بعد صدور الجريدة فقد كنت في الموصل . وكل ما عرفته ان صاحب الامتياز هذا كان يبيت نية سوء فقد افتعل خصاما وابعد نفسه عن الحزب واستثأر بالجريدة لنفسه, لتبدو كسائر الجرائد الفردية اللاحزبية واظنه افاد بهذا اذ كان يسخرها للحكومات على امل اسناده في دورة انتخابية وبعد سبع سنين اسعده الحظ ففاز بالنيابة عن مسقط رأسه الموصل وهذا هو المجلس النيابي الشهير الذي لم يرض عنه نوري السعيد لوجود تسعة ااو عشرة من النواب مان يكره ان يسمع صوتهم في المجلس ولم يكن (يحيى قاسم) منهم . فقام بحله بعد جلسة واحدة فقط . وأظنه فاز بنيابة اخرى في اخر مجلس للنواب ولم يستمع بالنيابة طويلا فقد كنسته ثورة تموز .
اذكر يحيى قاسم اثناء تردده الى مجلة “المجلة” في عام 1943 اذ كان اعلى الاصوات واكثرها لهجا بالنظرية الجدلية اي الماركسية . واختفى اسم (يحيى قاسم) من الحياة العامة واظنه ترك العراق بعد الرابع عشر من تموز . ثم ظهر اسمه فجأة في الاعلام الدولي في اوائل الثمانينات , مقترنا بحادث اغتيال “عبد الرزاق النايف” وهو الضابط الذي اسند لنفسه منصب رئيس الوزارة بأنقلاب السابع عشر من تموز 1968. فقد اتهم في لندن –حيث جرى اغتيال الضابط –بأنه هو الذي قاده الى حتفه مسهلا مهمة القتلة.
واضطر عزيز شريف الى استصدار امتياز جديد لجريدة الحزب بأسم ” الوطن” وقد سدت والغي امتيازها بألغاء اجازة الحزب . اننا لم نكن عاطلين فكريا فألى جانب الجريدة .اصدرنا ربما قبل الاجازة سلسلة من الكتب او الرسائل متخذين لها العنوان الذي قد يبدو غريبا الان”رسائل البعث” . واسهمت( نورية) زوج عزيز بترجمة كتاب . كما اسهم (عزيز) بكتاب اظنه عن القضية الفلسطينية واسهمت انا بترجمة كتاب تاريخي سياسي لمؤلف انكليزي عن الحركة العمالية للمؤلف الانكليزي الاشتراكي أ.و كامبل عنوانه “الاصول التأريخية لحركة العمال العالمية ” . غيبت اسمه في قائمة الكتب التي كانت توضع في اواخر طبعات كتبي , لاحده في اخر ما يخطر بالبال . اذ كنت قبل ايام في مكتبة احد الوراقين هنا بمدينة اربيل ووقعت يدي على كتاب انيق التجليد والطباعة كتب عليه اسم دار طباعة لبناني وتأريخ 1982 بالعنوان الغريب “معجم الاسماء المستعارة واصحابها ولا سيما في الادب العربي الحديث” صنفه الببلوغرافي المعروف “يوسف اسعد داغر ” فأجتذب عنوانه اهتمامي واقتنيته . ورحت اقلب صفحاته على غير هدى وتعيين لاجد اسم مؤلفه الى جانب حرفي (ج.ف) وهو البديل لاسمي الذي ارتأى الاستاذ عزيز وضعه عليه . والمؤلف (داغر) كان يشير الى ان مصدر هذه المعلومات هو “معجم المؤلفين العراقيين” الذي صدر في العام 1969 بمجلدات ثلاثة للستاذ كوركيس عواد لكن كيف توصل هذا المصدر الاخير الى اسمي الحقيقي . اذ قال ما نصه :
(ج.ف: توقيع الكاتب العراقي جرجيس فتح الله الخ ) . وكنا قد حرصنا على الكتمان؟
بالاختصار لا أدري أو بالاحرى لاتسعفني الذاكرة لأقطع بصدور غير هذة الكنب الثلاثة تحت عنوان ((رسائل البعث))
الاستقالة من حزب الشعب
س:بهذه المناسبة ,وبحسب ما بينت سابقاً أن هذه الأحزاب ولنطلق عليها اسم (الاحزاب الديمقراطية) كانت متقاربة المناهج والديمقراطية قاسمها المشترك ,الذي يربط قياداتها أو اشتراكية النزعة كما تنظرها الحكومة هل جرت محاولات لتوحيدها في حزب واحد بعد أن منحت الإجازة بالعمل رسمياً؟
بخصوص الحزب الوطني الديمقراطي لم يكن هناك أي أمل مع اي من الحزبين لا عن طريق التوحيد ولاعلى صعيد التنسيق لأن الصدع الذي حصل في كتلة الأهالي في أوائل العام 1942 كان أيديولوجياً وتعبوياً في عين الوقت الچادرچي ومعه محمد حديد وحسين جميل كانوا يرون في (صوت الاهالي )وسيلة لتثقيف الرأي العام وتوجيهه سياسياً فحسب في حين كان عزيز وعبد الفاتح يجدان في صوت الأهالي والعصبة الملتفتة حولها اداة تجمع حزبي آني لايمكن تأجيله وان تكون سياسيتها سياسيه مواجهة صريحة مع الطبقة الحاكمة والچادرچي هو طينة أولئك الرجال الذين يفكرون كصيراً وطويلاً قبل الوصول الى القرار معين ومتى وصل اليه يصبح نقاشه فية أو مجاولة اقناعه بغيره من قبيل المستحيلات فهو شديد الاعتزاز برأيه
أما بخصوص الحزبين الاخرين –أنا لا أريد الاطاله في هذا –فقد شرع فعلاً في بحث امكانية توحيد الحزبين في واحد بعد شهرين او ثلاثة من الاجازة واتخذت خطوات عملية وجرت مفاوضات وجدت نفسي ممثلاً في احداها بصدفة وجودي في المقر وفي أثناء زياره(محمد مهدي الجواهري ) للأستاذ
(عزيز) . انهى زيارته وكانت تدور حول موضوع التوحيد . وكان (عزيز) يعلم عن عمله لي بالاستاذ (عبد الفتاح) فذهبنا سوية (الجواهري) وانا الى مقرهم . كل ما يعلق بذهني من تلك الجلسة ان عبد الفتاح كان يحتكر الحديث . وان الجواهري كان يرى التجاوز عن بعض المواقف والتركيز على نقاط اللقاء . والحاصل ان المحاولات ظلت مستمرة متراوحة انا بين الدمج الكلي وانا بين اقامة الوحدة السياسية والتنظيمية بأبقاء هيكلية الحزبين . وقد شعر رئيسا الحزبين بضرورة ذلك عندما وقعا تحت وطأة التسلل الشيوعي في نسيج الحزبين التحتي بأمر صريح من قيادة الحزب الشيوعي العراقي اثر فشله في الحصول على اجازة الحزب الواجهة كما نوهت به قبلا . وربما كنت وانا في الموصل اول من تلقى الصدمة التي ادت الى استقالتي من الحزب.
س: أتعني ان البداية كانت في الموصل ؟ وأنت معتمد الحزب هناك؟
ليس هذا بالضرورة . لا شك في ان اللجنة المركزية في بغداد كانت على علم والبداية ولا شك كانت هناك والغزو لم ينفرد به حزب الشعب بل شمل الحزبين الاخرين . وارى من الضروري للجواب ان اعود الى الوراء قليلا لاقدم خلفية للشخصية التي قادت المحاولة الانقلابية في الموصل .
الاستاذ محمد توفيق حسين صديق الدراسة الصدوق منذ المرحلة الدراسية المتوسطة .ما كنا نفترق الا لنأوي الى الفراش ندرس معا , نبتاع الكتب الادبية والدواوين ونتبادل قراءتها .ينظم الشعر وانظم ونتزاور عائليا . افترقنا بعد الثانوية وارسل في بعثة دراسية للجامعة الأميركية ببيروت وبقينا نتراسل ويرسل الي كل ما استجد من الكتب مقتطعا من مرتبه المحدود المخصص له . ثم ارسل الى انكلترا ليكمل درجة الماجستير ثم عاد ليعين في مدرسة الملك فيصل على ما الطر وهي المدرسة التي فتحت خصيصا لقبول ذوي المواهب والخريجين المتقدمين فما لبثت ان سدت لتفشي (الافكار الهدامة) فيها على ما وصفت .تبين لي فيما بعد ان محمد توفيق وهو يدرس ببيروت انضم الى الحركة التقدمية في فترة الانفتاح السياسي والنشاط الفكري العقائدي اثر سيطرة الحلفاء على سورية ولبنان . وكانت مستقطبة حول مجلة “الطريق ” التي قامت بأصدارها جمعية ادبية (في الظاهر) تألفت في بيروت العام 1942 , وضمت فريقا كبيرا من مشاهير رجال الفكر والقلم . وذكروا في اعدادها الاولى ان غاية الجمعية هي “الإقرار بالجميل لتلك الشعوب التي انقذت بلادنا من اهوال الحرب . بصمودها امام العدوان . النازي” او شيء من هذا القبيل . ومن المقالات التي كانت تنشرها المجلة وكان (محمد توفيق ) يبعث بها الي تباعا . عرفت الشخصيات التي كانت تنتظمها تلك الجمعية وبينها ما ظهر انه شيوعي فيما بعد وعي اسماء لاعلام من المؤلفين البارزين ورجال الفكر السوريين واللبنانيين امثال (عمر فاخوري ) و(كامل عياد) و(يوسف ابراهيم يزبك) مؤلف كتاب (النفط مستعبد الشعوب ) الشهير. و(رئيف خوري) صاحب لمؤلفات الادبية النقدية . و(اميل البستاني) المالي الكبير الذي احدث مصرعه في حادث طيارة وبظروف غامضة رجة في اعلام الشرق الاوسط واوساطه المالية. و (قدري قلعجي) المؤلف الكبير الذي خرج فيما بعد عن الحزب الشيوعي اللبناني وكان من قيادييه . والاديب والسياسي (انطون ثابت)وغيرهم.
كانت اللغة مشتركة تقريبا بين اولئك المحسوبين على المعسكر الديمقراطي لا يعرف من هو الشيوعي حامل بطاقة الحزب او الماركسي او الاشتراكي الثوري , او الاشتراكي الفابي , او الديمقراطي الدستوري او الديمقراطي فقط. بالاختصار كل من تحسس خطر الافكار النازية . وفي اوائل الصيف عندما قدم (محمد توفيق) من بغداد لقضاء العطلة بين اهله . رحبت به في المقر . وابديت ارتياحا كبيرا عندما عرض القاء محاضرات على انصار الحزب واعضائه وتركت له الميدان حرا.

*اجرى الحوارات السيدان مؤيد طيب وسعيد يحيى والكتاب من منشورات دار أراس للطباعة والنشر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2012

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة